هل يمكن إزالة الغضب؟ وما هي طرق علاجه؟

اختلف علماء الأخلاق في إمكان إزالة الغضب بالكلية وعدمه، فقيل: قمع أصل الغضب من القلب غير ممكن، لأنه مقتضى الطبع، إنما الممكن تضعيفه، حتى لا يشتد هيجانه.

وقيل: الغضب المذموم ممكن الزوال، ولولا إمكانه لزم وجوده للأنبياء والأوصياء، ولا ريب في بطلانه.

وعلى كل حال فعلاج الغضب يتوقف على أمور، وربما حصل ببعضها:

1- إزالة الأسباب المهيجة له، إذ علاج كل علة بحسم مادتها، وهي العجب، والفخر، والكبر، والغدر، واللجاج، والمراء، والمزاح، والاستهزاء، والتعيير، والمخاصمة، وشدة الحرص على فضول الجاه والأموال الفانية، وهي بأجمعها أخلاق ردية مهلكة، ولا خلاص من الغضب مع بقائها، فلا بد من إزالتها حتى تسهل إزالة الغضب.

2- أن يتذكر قبح الغضب وسوء عاقبته، وما ورد في الشريعة من الذم عليه، كما تقدم.

3- أن يتذكر ما ورد من المدح والثواب على دفع الغضب في موارده، ويتأمل فيما ورد من فوائد عدم الغضب، كما ورد في جملة من الروايات ففي الحديث النبوي: (إذا جمع الخلائق يوم القيامة نادى مناد أين أهل الفضل؟ فيقوم أناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنّا نراكم سراعاً إلى الجنة، فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صبرنا وإذا أسيئ إلينا عفونا وإذا جُهِل علينا حلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين)[1].

وكقول أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (مَنْ كفَّ غضبه عن النّاس كفَّ الله عنه عذاب يوم القيامة)[2].

وقوله (عليه السلام): (مكتوب في التوراة: فيما ناجى الله به موسى: امسك غضبك عَمَّن ملّكتُك عليه أكُف عنك غضبي)[3]. وقول الصادق (عليه السلام): (أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: يا ابن آدم اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق وارض بي منتصراً فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك)[4]. وقوله (عليه السلام): (من كف غضبه ستر الله عورته)[5]. وعن الرضا(عليه السلام): (لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً)[6]. إلى غير ذلك من الأخبار.

4- أن يتذكر فوائد ضد الغضب، أعني: الحلم وكظم الغيظ، وما ورد من المدح عليهما في الأخبار ويواظب على مباشرته ولو بالتكلف، فيتحلّم وإن كان في الباطن غضباناً، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (إن لم تكن حليماً فتحّلم، فإنّه قَلّ مَنْ تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم)[7]. وإذا فعل ذلك مدة صار عادة مألوفة هنيئة على النفس، فتنقطع عنها أصول الغضب.

5- أن يحترز عن مصاحبة أرباب الغضب، والذين يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعة ورجولة، فيقولون: نحن لا نصبر على كذا وكذا، ولا نحتمل من أحد أمراً، ويختار مجالسة أهل الحلم، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس.

6- أن يعلم أن ما يقع إنما هو بقضاء الله وقدره، وأن الأشياء كلها مسخرة في قبضة قدرته، وأن كل ما في الوجود من الله، وأن الأمر كله لله، وأن الله لا يقدّر له إلا ما فيه الخِيَرة، وربما كان صلاحه في جوعه أو مرضه، أو فقره، أو جرحه أو قتله، أو غير ذلك، فإذا علم بذلك غلب عليه التوحيد، ولا يغضب على أحد، ولا يتأذى بما يرد عليه، إذ يرى -حينئذ- أن كل شيء أسير في قبضة قدرته تعالى، كالقلم في يد الكاتب.

فكما أن مَنْ صدر عليه حكم من المَلِك بضرب عنقه وكتبه في كتاب ووقعّه بتوقيعه لا يغضب على القلم، فكذلك من عرف الله وعلم أن هذا النظام الكوني صادر منه على وفق الحكمة والمصلحة -ولو تغيرت ذرة منه عما هي عليه خرجت عن الأصلحية- لا يغضب على أحد.

7- أن يتذكر أن الغضب مرض قلب ونقصان عقل، صادر عن ضعف النفس ونقصانها، لا عن شجاعتها وقوتها، ولذا يكون المجنون أسرع غضباً من العاقل، والمريض أسرع غضباً من الصحيح، والشيخ الهرم أسرع غضباً من الشاب، وصاحب الأخلاق السيئة والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل، فالرذيل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة، والبخيل يغضب لبخله إذا فقد أدنى شيء، والنفس القوية المتصفة بالفضيلة أجلّ شأناً من أن تتغير وتضطرب لمثل هذه الأمور، بل هي كالطود الشاهق لا تحركه العواصف، ولذا قال سيد الرسل (صلى الله عليه وآله): (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)[8].

وإن شككت في ذلك فافتح عينيك وانظر إلى طبقات الناس الموجودين، ثم ارجع إلى كتب السير والتواريخ، واستمع إلى حكايات الماضين حتى تعلم: أن الغضب خصلة الجهلة والأغبياء وأن الحلم والعفو وكظم الغيظ شيمة الأنبياء والحكماء وأكابر الملوك والعقلاء، وقد وصفهم الله بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراماً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ونحو ذلك.

8- أن يتذكر أن قدرة الله عليه أقوى وأشد من قدرته على هذا الضعيف الذي يغضب عليه، ولم يأمن إذا أمضى غضبه عليه أن يمضي الله عليه غضبه في الدنيا والآخرة، وقد روي: (أنه ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم، إذا غضب أعطاه صحيفة فيها: (ارحم المساكين، واخش الموت، واذكر الآخرة)، فكان يقرأها حتى يسكن غضبه)[9]. وورد أيضا: (يا ابن آدم! اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك فيمن أمحق)[10].

9- أن يتذكر أن مَنْ يمضي عليه غضبُه ربما قوي وتشمَّر لمقابلته، وجرَّد عليه لسانه بإظهار معائبه والشماتة بمصائبه، ويؤذيه في نفسه وأهله وماله وعرضه.

10- أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الغضب فإن كان خوف الذلة والمهانة والاتصاف بالعجز وصغر النفس عند الناس، فليتنبه أن الحلم وكظم الغيظ ودفع الغضب عن النفس ليست ذلة ومهانة، ولم يصدر من ضعف النفس وصغرها، بل هو من آثار قوة النفس وشجاعتها، وأضدادها تصدر من نقصان النفس وضعفها، فدفع الغضب عن نفسه لا يخرجه من كبر النفس في الواقع، ولو فرض خروجه به منه في أعين جهلة الناس فلا يبالي بذلك، ويتذكر أن الاتصاف بالذلة والصغر عند بعض أراذل البشر أولى من خزي يوم المحشر والافتضاح عند الله الملك الأكبر. وإن كان السبب خوف أن يفوت منه شيء مما يحبه، فليعلم أن ما يحبه ويغضب لفقده إما ضروري لكل أحد، كالقوت والمسكن واللباس وصحة البدن، أو غير ضروري لأحد، كالجاه والمنصب وفضول الأموال، أو ضروري لبعض الناس دون بعض، كالكتاب للعالم، وأدوات الصناعات لأربابها، ولا ريب أن كل ما ليس من هذه الأقسام ضرورياً فلا يليق أن يكون محبوباً عند أهل البصيرة وذوي المروات، إذ ما لا يحتاج إليه الإنسان في العاجل لا بد له من تركه في الآجل، فما بال العاقل أن يحبه ويغضب لفقده، وإذا علم ذلك لم يغضب على فقد هذا القسم قطعاً، وأما ما هو ضروري للكل أو البعض، وإن كان الغضب والحزن من فقده مقتضى الطبع لشدة الاحتياج إليه، إلا أن العاقل إذا تأمل يجد أن ما فقد عنه من الأشياء الضرورية إن أمكن رده والوصول إليه يمكن ذلك بدون الغيظ والغضب أيضاً، وإن لم يمكن لم يمكن معهما أيضاً، وعلى أي حال بعد التأمل يعلم أن الغضب لا ثمرة له سوى تألم العاجل وعقوبة الآجل، وحينئذ لا يغضب، وإن غضب يدفعه عن نفسه بسهولة.

11- أن يعلم أن الله يحب منه ألا يغضب، والحبيب يختار ما يحب محبوبه، فإن كان محباً لله فليطفئ غضبه بشدة حبه لله.

12- أن يتفكر في قبح صورته وحركاته عند غضبه، بأن يتذكر صورة غيره وحركاته عند الغضب ليعلم بذلك قبح هيئته عنده بتغير اللون واحمرار الأحداق وظهور الزبد على الأشداق، واستحالة الخلقة وانقلاب المناخر ولو رأى الغضبان في حال غضبه كراهة منظره لسكن غضبه حياء من قبح ظاهره، وباطنه أقبح وإنما قبحت صورة الباطن أولاً ثم سرى ذلك إلى الظاهر.[11]

13- من الخير للغاضب إرجاء نزوات الغضب وبوادره، ريثما تخفّ سَورته، والتروّي في أقواله وأفعاله عند احتدام الغضب، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)انه قال: (إذا غضبت فاسكت)[12] فإن هذا التروي يخفّف حدّة التوتر والتهيج، ويعيده إلى الرشد والصواب، ولا يُنال ذلك إلا بضبط النفس، والسيطرة على الأعصاب.

14- ومن علاج الغضب الاستعادة بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فإنه المهيج للغضب كما ذُكر، والاستعانة به تعالى على كفايته وتتأدى الوظيفة بالبسملة، وكان (صلى الله عليه وآله) إذا غضبت عائشة أخذَ بأنفها، وقال: (يا عويش قولي: اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مُضلات الفتن)[13].

15- ومن علاج الغضب:

جلوس الغاضب إذا كان قائماً، واضطجاعه إن كان جالساً والنزول إن كان راكباً، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): (أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم فَمَن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض)[14].

لزوم الأرض، فعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإن رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك)[15].

ولعل السر في الاقتراب من الأرض هو الإشعار بأنه مخلوق من التراب وعبد ذليل لا يليق به الغضب، أو التوسل بسكون الأرض وثبوتها، أو لأنه يقلل دواعي الغاضب من المشي للقتل والضرب وأشباههما، أو للانتقال من حال إلى حال أخرى، والاشتغال بأمر آخر فإنه مما ينسي الغضب في الجملة.

الوضوء أو الغسل بالماء البارد كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): (إذا غضب أحدكم فليتوضأ وليغتسل، فإن الغضب من النار)، وفي رواية: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفئ النار الماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)[16].

مس يد الرحم إن كان مغضوباً عليه، فإنه من مهدئات الغضب فقد روي: (أيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه وليمسه فإن الرحم إذا مست سكنت) [17].

 

 


[1] ميزان الحكمة: ج3، ص2434.

[2] وسائل الشيعة: ج15، ص361.

[3] جامع  أحاديث  الشيعة: ج13، ص471.

[4] الكافي: ج3، ص304.

[5] وسائل الشيعة: ج15، ص360.

[6] الكافي: ج2، ص111.

[7] نهج البلاغة: ج4، ص47.

[8] ميزان الحكمة: ج3، ص2266.

[9] المحجة البيضاء: ج5، ص306.

[10] بحار الأنوار: ج70، ص350.

[11] جامع السعادات: ج1، ص258 بتصرف.

[12] بحار الأنوار: ج70، ص272.

[13] بحار الأنوار: ج70، ص272.

[14] بحار الأنوار: ج70، ص272.

[15] الكافي: ج2، ص305.

[16] بحار الأنوار: ج70، ص272.

[17] أخلاق أهل البيت (عليهم السلام): ص36.