الكثير ممن هاجر إلى بلاد الشرك سواء كانت هجرته إجبارية بسبب بعض الظروف التي عاشها الكثير من المسلمين خصوصا أتباع أهل البيت صلوات الله عليهم أم لطلب العلوم الدنيوية أو للتجارة أو غيرها من دواعي السفر ربما تتولد لديهم شبهة وهي: يتصورون أنهم لا يتأثرون بما هو موجود في هذه البلاد من الانحلال وعدم المبالاة وانتشار كل مظاهر الفساد سواء كانت أخلاقية أم فكرية.
ويرجع هذا التصور ـ بزعمهم ـ أنهم وصلوا إلى مرحلة من التشبع إلى ما هو موجود واعتادوا عليه لكثرة ما يشاهدون وما يتعرضون له يومياً، وهم يعترفون بأنهم في بداية دخولهم لهذه البلاد قد تأثروا كثيراً وربما قد أنجر بعضهم إلى الموبقات وارتكاب المعاصي إلا ما رحم ربي..
ويعتقدون أن لا داعي للرجوع إلى البلاد الإسلامية ـ خصوصاً لما يعيشونه من رفاهية العيش والخدمات ـ بعد ما اعتادوا عليه من الحياة في هذه البلاد.
وهذه شبهة قد سمعناها من البعض عندما طلب منهم الرجوع إلى بلادهم الإسلامية خصوصاً بعدما ارتفع العذر الذي من أجله قد أجبروا على ترك بلادهم.
وفي مقام الرد عليهم يمكن القول: إن نفس الدخول بداية لمثل هذه البلاد ـ مع عدم الاضطرار لذلك أو كان لديهم خيار آخر ـ فيه إثم خصوصاً عندما يحتمل الإنسان عدم الحفاظ على دينه أو لا يحترز عن الوقوع في المحرمات.
كما أن نفس الاعتياد ـ على فرض إمكان ذلك ـ على مظاهر الفساد وعدم التأثر بها -بحسب زعمهم- فهذه مصيبة كبرى، لأنهم في الحقيقة وصلوا إلى مرحلة اعتياد المعاصي وعدم استقباحها والنفور منها بل أصبحت المحرمات مما تشاع وتنتشر بصورة معتادة، مع كون استقباح المعاصي من الأمور التي تكون سابقة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبدايات التوبة النصوحة، لأن التائب يجب عليه استشعار الندم وقبح المعصية.
ثم أين ذلك الذي يدعي عدم التأثر بالمظهر الخارجي ومشاهدة مناظر الانحلال ويبقى صامدا أمام كل صورة وموقف؟
وهل له الإجابة عن موقف أولاده وعياله عندما ينشؤون في هذه البلاد وتنبت جذورهم فيه وتورق حياتهم بعيداً عن تعاليم الدين الحنيف، بل قد يأخذون تعاليمهم من وسطهم المشرك المنحل وتصبح تعاليم الغرب هي الأساس في بناء حياتهم.
لذا نجد أن الشريعة الإسلامية قد أولت اهتماماً بليغاً بالنسبة للتعرب بعد الهجرة وجعلته من الكبائر بل بعض الروايات جعلته من الكبائر السبعة، لما في ذلك من الخطورة على الإنسان على جميع الأصعدة من الناحية النفسية والعقائدية.
فيبدأ الإنسان شيئاً فشيئاً بالانسلاخ من عقيدته ومعتقداته وآدابه الإسلامية من حيث يشعر أو لا يشعر، ويبدأ بالاعتقاد بأفكار مخالفة للإسلام والاعتياد عليها وتتشرب نفسه بالتطور المادي الأخاذ الذي يكون غالباً بعيداً عن روح الشريعة والمعتقدات الحقة، فيشرد لبه ويطير عقله بما حوله.
وعلى فرض أنه لم يعتقد بما يخالف الشريعة فلا أقل من الصعوبات التي يواجهها في ممارسة دينه وأحكامه الشرعية من الحلال والحرام وتجنب المحرمات من النظر والتعامل الربوي في بعض الأحيان واكتساب العادات والتقاليد التي تكون في تلك البلاد، ولا ريب أنه سوف يواجه المشكلات في تربية أولاده وعائلته الذين سوف يعتادون على ثقافة تلك البلاد وينشؤون في بيئة لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، فيأخذون بالتطبع مع التطور المادي والتقني، فتصبح نظرتهم مادية بحته تقلل إيمانهم بالأمور الدينية والشعائر الإسلامية، بل ربما لا يعتقدون بالكثير من الأحكام الشرعية كالصيام والصلاة وغيرها من الأحكام المبنية على الأمور الغيبية التي نجهل الحكمة منها.
كما أن من المعروف أن الوسط الاجتماعي يؤثر بصورة فعالة على تصرفات الفرد الذي يصبح يفكر بالعقل الجمعي، فيتأثر تأثراً واضحاً حتى على مستوى الذوق والانتقاء، لذا نجد أن المجتمعات التي تكون قريبة من منبع الشريعة تجدها أكثر التزاماً، وصبغة الشريعة تكون واضحة المعالم فيها.
إذن لا توجد حرمة ذاتية لسُكنى البادية، و إنما حرَّم التعرب بعد الهجرة لما فيه من آثار سلبية، و هذا ما صرَّحَ به أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فقد كتب علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) إلى محمد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: وحرم الله التعرب بعد الهجرة للرجوع عن الدين وترك المؤازرة للأنبياء والحجج(عليهم السلام)، وما في ذلك من الفساد وإبطال حق كل ذي حق لعلة سكنى البدو، ولذلك لو عرف الرجل الدين كاملاً لم يجز له مساكنة أهل الجهل والخوف عليه، لأنه لا يؤمن أن يقع منه ترك العلم والدخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك)[1].