المقصود بالهجرة التحوُّل الإيجابي من حياة البداوة والجاهلية والكفر إلى الحياة الملتزمة بتعاليم الشريعة المحمدية وفي حاضرة الإسلام، كما حصل بالنسبة إلى المسلمين الأوائل الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة المنورة، حيث أقام الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) دولة الإسلام، يقول الله تعالى: )ومن يهاجرُ في سبيلِ اللهِ يجدُ في ألأرضِ مُراغماً كثيراً وسَعةً ومن يَخرجُ من بيتِهِ مُهاجرا ًإلى اللهِ ورسولهِ ثم يُدركْهُ الموتُ فقد وقعَ أجرُهُ على اللهِ وكانَ اللهُ غفوراً رحيماً(([1]).
لذا تعتبر حادثة الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكيّة والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذه الحادثة آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.
فسيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله) لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادته (صلى الله عليه وآله) الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان، فهي الرسالة الخاتمة وبها جعل الله الحجة البالغة على جميع خلقه.
كما إن الهجرة من المعاني التي لا ينحصر انطباقها على المسلمين في الصدر الأول للإسلام ممن مارسوا الهجرة المكانية سواء الأولى للحبشة أو الثانية للمدينة المنورة، بل هي معنى خلقي وعقائدي تعبر عن حالة الإنسان من التطور والتحول من حالة إلى أخرى، من حالة الجهل والعمى بكل ممارساتهما الهمجية واللاأخلاقية، إلى حالة الرقي الخلقي والمعرفي بواقع الحياة وما ينتظر الإنسان بعد هذه النشأة من محطات، لذا تنطبق على زماننا هذا بنفس مناط انطباقها في الصدر الأول، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة، وأهمهما من حالة الجهل بالأحكام إلى العلم والمعرفة.
فالهجرة تعني لغة: ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى: )والرجزَ فاهجر(([2])، وقال أيضاً: )واهجرهم هجراً جميلاً(([3])، وتعني بمعناها الاصطلاحي: الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية، أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى.