قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)[1].
لما كان وجوب الأمر والنهي متعلقا بالغرض الذي لأجله تم تشريعهما، فإن هاتين الفريضتين يدور حكمهما مدار تحقق الغرض أو الغاية، إلا أنه لابد من الالفات إلى أنه ليس المراد تحقيق الغرض أو الغاية من الأمر والنهي بأي طريقة وأسلوب، بمعنى أنه للمكلف الحرية في اختيار الأسلوب وهو بالخيار بين ما كان ليناً وما كان شديداً، فهذا ليس صحيحاً، بل إن للأسلوب والطريق الموصل إلى الهدف وهو نشر وبث المعروف وقلع المنكر، أحكامه الملزمة حيث لا يجوز تعديها، والحاكم في ذلك قاعدة: أنه طالما أمكن تحقيق الغاية وهي التزام التارك للمعروف وإتيانه ما ترك وانتهاء الفاعل للمنكر عن الفعل بما هو لين وأقل شدة لا يجوز التعدي إلى ما هو أشد، وقد قال الله تعالى لموسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[2].
وقد ذكر الفقهاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب لابد من رعاية تدرجها في الأمر والنهي، نذكرها بحسب ما رتبها الفقهاء (قدست أسرارهم) وهي كما يلي:
المرتبة الأولى: مرتبة القلب.
المرتبة الثانية: مرتبة اللسان.
المرتبة الثالثة: مرتبة الفعل أو اليد.
ولنبدأ بالحديث عنها كما جاء ترتيبها:
1- مرتبة القلب: والمقصود بها: أن يعمل الآمر أو الناهي عملاً يظهر منه انزجاره القلبي عن المنكر، ومعنى ذلك: أن المطلوب هو إظهار ما في قلب الناهي أو الآمر من حالة بغض ونفور من حالة ترك المعروف أو فعل المنكر بطريقة يفهم منها أنه يدعوه إلى العودة عن ترك المعروف، والانتهاء عن فعل المنكر.
ولابد من الالفات إلى أن بعض هذه الأعمال يكون أقل حدة من بعضها الآخر ولذا لابد من رعاية القاعدة أعلاه حتى في نفس المرتبة فما كان أقل حدة من درجات مرتبة القلب وكان مؤثراً فلا يجوز التجاوز إلى ما هو أشد من نفس الرتبة.
وعن مصاديق هذه المرتبة يقول الفقهاء: (وله درجات كغمض العين، والعبوس والانقباض في الوجه، وكالإعراض بوجهه أو بدنه، وهجره وترك مراودته ونحو ذلك).
وعن رعاية التدرج في درجات هذه المرتبة قالوا (قدست أسرارهم): (يجب الاقتصار على المرتبة المذكورة مع احتمال التأثير ورفع المنكر بها، وكذا يجب الاقتصار فيها على الدرجة الدانية فالدانية والأيسر فالأيسر، سيما إذا كان الشخص المراد هدايته وإرشاده في مورد يتأثر بشكل يؤدي إلى هتكه بالمستوى الأعلى، فلا يجوز التعدي عن المقدار اللازم، فإن احتمل حصول المطلوب بغمض العين المفهم للطلب لا يجوز التعدي إلى مرتبة فوقه).
2- مرتبة اللسان: وهي الأمر والنهي لساناً، والمقصود به الأمر للتارك للمعروف أو النهي لفاعل المنكر بواسطة الكلام بحيث يفهم منه الفاعل أو التارك الأمر والنهي، ولابد من التنبيه إلى أنه لا يلجأ إلى هذه المرتبة إلا إذا لم يحتمل التأثير بإظهار التنفر القلبي وهو المرتبة الأولى، يقول الفقهاء (قدست أسرارهم): لو علم أن المقصود لا يحصل بالمرتبة الأولى (مرتبة القلب) يجب الانتقال إلى الثانية (اللسان) مع احتمال التأثير.
ولهذه المرتبة كذلك درجات تختلف شدة وليناً فمنها:
الأولى: الوعظ والإرشاد والقول اللين، بأن يعظ الفاعل وينصحه، ويذكر له ما أعد الله سبحانه للعاصين من العقاب الأليم والعذاب في الجحيم، أو يذكر له ما أعده الله تعالى للمطيعين من الثواب الجسيم والفوز في جنات النعيم، ومع احتمال التأثير بها يجب رعايتها ولا يجوز تعديها إلى ما هو أشد.
الثانية: الأمر والنهي مع علم الآمر أو الناهي عدم تأثير الوعظ والإرشاد بالقول اللين، فينتقل إلى المرتبة الأعلى من الأمر والنهي، ويجب أن يكون من الأيسر في القول إلى الأيسر مع احتمال التأثير ولا يجوز التعدي (لا سيما إذا كان المورد مما يهتك الفاعل به).
الثالثة: غلظة القول والتشديد (مع احتمال التأثير به وعدم احتمال التأثير بما ذكر أعلاه) بأن يشدد في الأمر وبالوعيد على المخالفة.
تنبيهات:
أ - لو كان بعض مراتب القول أقل إيذاء من بعض مراتب إظهار النفور القلبي يجب الاقتصار على القول مع احتمال التأثير، كما لو كان القول اللين والوعظ أقل إيذاءً من العبوس والإعراض بالوجه يجب تقديم الوعظ والإرشاد مع انبساط الوجه بالقول اللين على العبوس والإعراض.
ب - لو لم يمكن التأثير إلا بجمع بعض المراتب مع بعضها أو بعض الدرجات من مرتبة مع درجات من مرتبة أشد وجب، كأن لم يمكن التأثير إلا بالجمع بين العبوس والهجر مع الإنكار باللسان والغلظة والتهديد ورفع الصوت فيجب ذلك.
3- مرتبة الفعل أو اليد: وهي مرتبة الإنكار باليد ولا يصار إلى هذه المرتبة إلا بالعلم أو الاطمئنان بأن التأثير لا يحصل بأي من المرتبتين الأوليين وله درجات.
الأولى- الحيلولة: بأن يحول بين الفاعل وبين المنكر، كحبس الفاعل ومنعه من الخروج من منزله أو كسر آلة اللهو والمنكر، مع مراعاة الأيسر فالأيسر، وينبغي في هذه الصورة الاستئذان من الفقيه الجامع للشرائط.
الثانية- الضرب والإيلام: الظاهر جوازهما مراعياً للأيسر فالأيسر وينبغي أخذ الإذن من الفقيه الجامع للشرائط.
الثالثة- الجرح أو القتل: ولا يجوز إلا بإذن الإمام (عليه السلام) على الأقوى، ويقوم في هذا الزمان الفقيه الجامع للشرائط مقامه مع حصول الشرائط.
ملاحظة:
التعدي عن المقدار اللازم في دفع المنكر مع وجود ضرر على فاعل المنكر محرم، ويكون الناهي ضامناً.