أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

جاء الإسلام من أجل هداية المجتمع الإنساني، وإيصاله إلى قمّة التكامل والنمو والارتقاء الفكري والأخلاقي، بتقرير المنهج الإلهي في واقع الحياة، وجعله الحاكم على أفكار الناس، ومشاعرهم، ومواقفهم، لتتحول الأفكار والتصورات والمفاهيم إلى صور متجسدة في الواقع، ذات معالم ومواقف منظورة ومحسوسة.

ولا تتحقق هذه الهداية بمجرد نزول المفاهيم والقيم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم تترسخ في حياة الناس وتكون جُزءاً من منظومتهم الفكرية والنفسية فيمارسونها بعد ذلك في حياتهم, ثم بعد ذلك لابد من وجود رقيب اجتماعي يضمن عدم انخرام هذه الأحكام وتجاوزها، وخير وسيلة لحماية المجتمع من ترك أحكامه هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ بأمر من الله تعالى ـ أثني عشر إماماً عِدلاً للقرآن، وسمّاهم القرآن الناطق الذي يقوم بمهمة تطبيق أحكامه في الواقع، وفي جميع مجالات المنهج الإلهي العقدي والسلوكي، وفي جميع مجالات مقومات الشخصية الإنسانية: الفكر والعاطفة والسلوك.

فلأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي هو بحاجة إلى من يتبنّاه ويقوم به لتتواصل المسيرة ويتحقق البناء والإصلاح والتغيير الشامل، لم يترك رسول الله(صلى الله عليه وآله) القرآن وحده بمفاهيمه وقيمه وتشريعاته المجملة والظاهرة والباطنة ـ وهو المرشد الأول للمعروف والناهي عن المنكر ـ عرضة للأهواء والتفسير بالرأي ـ بل جعل بجانبه ثقلاً آخر وهم أهل البيت(عليهم السلام) للنهوض بمهمة البيان واستمرار أداء الرسالة، وتوجيه الأمّة لصالح الأعمال وردعها عن منكر الفعل والقول.

قال الإمام محمد الباقر(عليه السلام): (إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن  المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض وتَأمن المذاهب وتَحل المكاسب، وتُرد المظالم، وتُعمر الأرض ويُنتصف من الأعداء، ويَستقيم الأمر...)[1].

فإن من أهم المهمات وأفضل القربات التناصح والتوجيه إلى الخير والتواصي بالحق والصبر عليه، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عز وجل ويباعد من رحمته.

وقد عدّه العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، وقدّمه الله عز وجل على الإيمان كما في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله)[2].

وقدّمه الله عز وجل في سورة التوبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[3].

وفي هذا التقديم إيضاح لعِظم شأن هذا الواجب وبيان لأهميته في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب، وبتحقيقه والقيام به تصلح الأمة ويكثر فيها الخير ويضمحل الشر ويقل المنكر، وبإضاعته تكون العواقب وخيمة والكوارث كبيرة والشرور كثيرة، وتتفرّق الأمة وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر، ويظهر صوت الباطل، ويفشو المنكر.

وتتناسب أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تناسباً طردياً مع أهمية الأهداف والغايات التي تتحقق من خلال القيام به، والتي يمكن إجمالها بما يلي:

أولاً: نشر المفاهيم العقائدية والقيم التشريعية: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يهتدي الإنسان إلى الصراط القويم، وهو الإيمان بالله تعالى وتوحيده في التصورات والمشاعر والمواقف، والإيمان برسول الله والاقتداء به، والإيمان بإمامة أهل البيت، والإيمان باليوم الآخر، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (... بعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول... ولم يُخل الله سبحانه خلقهُ من نبي مرسل، أو كتاب مُنزَل، أو حجّة لازمة، أو محجة قائمة... إلى أن بعث الله سبحانه محمداً... فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة...)[4].

وبرسول الله يهتدي الإنسان إلى القيم التشريعية ويطلع على أسسها وقواعدها، وبه يزاول الأحكام في واقعه السلوكي، وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: (إن الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدىً... أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلِّ شيء، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً، حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه، وأنهى إليكم ـ على لسانه ـ محابَّهُ من الأعمال ومكارهه، ونواهيه وأوامره، وألقى إليكم المعذرة، وأتخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدي عذاب شديد، فاستدركوا بقية أيامكم...)[5].

وبالعقيدة والشريعة الإلهية تصل الأمّة إلى التكامل والارتقاء والخير والسعادة، وهي متوقفة على أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)[6].

  وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم القضاء على البدع وتحجيم الانحراف العقائدي والتشريعي، وتثبيت الإيمان في القلوب.

ثانياً: إصلاح الأخلاق: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتهيأ الأجواء الروحية والنفسية للانتصار على الأهواء والشهوات، والتعالي على أثقال المطامع، لأنه يتتبع دخائل النفوس، وينفذ إليها بالكلمة الطيبة والقول السديد.

فالمفروض أن النفوس تستجيب لمن يريد تربيتها وإصلاحها، وإنها لتتطلع إلى أفق أرحب واهتمامات أرفع، وتتوجه إلى الفضائل والمكارم وحسن السيرة إذا ما تم تعاهدها بالمعروف، وإبعادها عن ساحة المنكر.

والأمر بالمعروف يدفع إلى العمل الصالح بعد التعالي على جميع أغلال الانحراف والفساد، فيصبح الانحراف والفساد فلتة عارضة وحادثة منقطعة، تعود إلى الأصل وهو الاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى.

عن أنس عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله تعالى مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)[7].

ويعني (صلى الله عليه وآله) بذلك: إن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو مفتاح للخير ومغلاق للشر.

ثالثاً: نصرة المظلومين وردع الظالمين: شُرّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحفاظ على سلامة العلاقات وعلى الحفاظ على الحرمات، بالدعوة إلى العدل والرحمة والنهي عن الجور والظلم، وإعطاء كل ذي حق حقه دون اعتداء أو اضطهاد أو استقلال، فإذا وجد الظالم والجائر من يردعه بقول أو بفعل، فإنه سيقلع عن ممارساته العدوانية ويتخلى عنها، وسيجد الناس أنّ لهم سنداً يدافع عن حقوقهم، فيعيشون الأمن والطمأنينة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (لا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذةٍ أو شفاء غيظٍ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق)[8].

وقال(عليه السلام): (رحم الله امرأً أحيى حقاً وأمات باطلاً وأدحض الجور وأقام العدل)[9].

رابعاً: الحفاظ على عزة المسلمين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقرر مدى تماسك المسلمين وتعاونهم على تكاليف الإيمان ويجعلهم يشعرون جميعاً شعوراً واحداً بضرورة القيام بأعباء الأمانة المناطة بهم، ويثبِّت بعضهم بعضاً فلا يتخاذلون، ويقوي بعضهم بعضاً فلا يتراجعون أمام المشاق والعقبات، فيتآزرون على ثقل المسؤولية، ومشقة الطريق، منطلقين نحو الهدف السامي وراء وجودهم وكيانهم، ويتناصرون لمواجهة الأخطار  والتحديات المحدقة بهم، ويستصغرون كل قوة، وكل عقبة، وكل كيد، وهم يشعرون بأن الله تعالى معهم إن أدّوا مسؤوليتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (من أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، من نهى عن المنكر أرغم أنوف الفاسقين)[10].

 


[1] الكافي: ج5، ص56.

[2] سورة آل عمران: آية110.

[3] سورة التوبة: آية71.

[4] نهج البلاغة: ص43 ـ 44،الخطبة1.

[5] نهج البلاغة: ص117،الخطبة86.

[6] تهذيب الأحكام: ج6، ص181.

[7] تنبيه الغافلين: ص94.

[8] بحار الأنوار: ج33، ص492.

[9] ميزان الحكمة: ج2، ص1051.

[10] مستدرك الوسائل: ج12، ص207.