الصحيفة السجادية

أما ثروته العلمية والعرفانية، فتتمثَّل في أدعيتِه التي رواها المُحَدِّثون بأسانيدهم المتواترة، التي أُلِّفت منها الصحيفة السجَّادية، فهي زبور آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

نعم، إن فَصَاحة ألفاظها، وبلاغة معانيها، وعلوَّ مضامينها، وما فيها من أنواع التذلُّل لله تعالى والثناء عليه، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه، والتوسُّل إليه، أقوى شاهد على صِحَّة نسبتها إليه، وأنَّ هذا الدُر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً إلى اشتهارها شُهرَة لا تقبل الريب، فقد رواها الثقَات بأسانيدهم المتعدِّدَة المُتَّصِلة، إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام).

وقد أرسل أحدُ الأعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلامة الشيخ الطنطاوي، المتوفَّى عام 1358هـ صاحب التفسير المعروف، فكتب في جواب رسالته: ومن الشقَاء أنَّا إلى الآن لم نَقِفْ عَلى هذا الأثر القَيِّم الخالد في مواريث النُبوَّة وأهل البيت، وإنِّي كُلَّما تأمَّلتُها رأيتها فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق.

وقال محمد باقر الأبطحي في مقدَّمَة الصحيفة السجادية: وحريٌّ بنا القول: إنَّ أدعيته  (عليه السلام) كانت ذات وجهين: وجه عباديٌّ، وآخر اجتماعيٌّ، يتَّسق مع مسار الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام  (عليه السلام) في ذلك الظرف الصعب.

استطاع الإمام  (عليه السلام) بقدرته الفائقة المسدَّدَة أن يمنح أدعيته - إلى جانب روحها التعبديَّة - محتوىً اجتماعياً متعدِّد الجوانب، بما حملته من مفاهيم خَصْبة، وأفكار نابضة بالحياة، فهو  (عليه السلام) صاحب مدرسة إلهيَّة، تارةً يُعلِّم المؤمِنَ كيف يُمَجِّد الله ويقدِّسه، وكيف يَلجُ باب التوبة، وكيف يناجيه وينقطع إليه، وأخرى يسلك به دَرْب التعامل السليم مع المجتمع، فيعلِّمه أسلوب البِرِّ بالوالدين، ويشرح حقوق الوالد، والولد، والأهل، والأصدقاء، والجيران، ثم يُبيِّن  (عليه السلام) فاضل الأعمال، وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي، كل ذلك بأسلوب تعليمي رائعٍ بليغ.

وصفوة القول: إِنَّها كانت أسلوباً مبتكراً في إيصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب الظمأى، والأفئدة التي تهوي إليها لتقتطف من ثمراتها، وتنهل من مَعينها، فكانت بحقٍّ عَمليَّة تربوية نموذجية، من الطراز الأول، أسَّس بناءها الإمام السجاد (عليه السلام) مستهلماً جوانبها من سِير الأنبياء وسُنَن المرسلين.

ومن أدعيته (عليه السلام) في هذه الصحيفة دعاؤه في يوم عرفة، ومنه: (اللَّهُمَّ هَذَا يَومُ عَرَفَة، يَومٌ شَرَّفْتَهُ، وَكرَّمْتَه وعظَّمْتَه، نَشَرْتَ فيهِ رَحْمَتَكَ، ومَنَنْتَ فِيه بِعَفوِكَ، وأجْزَلْتَ فِيهِ عَطِيَّتَكَ، وَتفضَّلْتَ بِهِ عَلَى عِبَادِكَ، اللَّهُمَّ وَأنَا عَبدُكَ الَّذي أنْعَمْتَ عَلَيه قَبْلَ خَلقِكَ لَه، وَبَعدَ خَلقِكَ إيَّاه، فَجَعلتَهُ مِمَّن هَدَيتَهُ لِدِينِك، ووفَّقْتَه لِحقِّكَ، وعَصمْتَهُ بِحَبلِكَ، وأدْخَلتَهُ فِي حِزْبِكَ، وأرْشَدتَهُ لِمُوالاةِ أولِيائِكَ، وَمُعادَاة أعْدَائِك)[1].

 


[1] الصحيفة السجادية الإمام زين العابدين(عليه السلام): ص220.