تهيئة أسباب العفة

قال تعالى في كتابه الكريم: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([1]) فلو تتبعنا هذا المقطع الشريف لوجدنا أن الله تعالى أشار إلى عدة فعاليات يقوم بها الإنسان لتقوية شخصيته للارتقاء بها إلى أعلى المستويات الكمالية وهذه الفعاليات:

1-البصر.

من الأمور التي شمل بها القرآن الكريم المرأة والرجل على حد سواء هو غض البصر حيث قال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، و(وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)، والغض هنا بمعنى التنقيص أو الحجب، وتطبيقه الاجتماعي المهم هو في مورد الاختلاط بين الرجال والنساء في مجالات الحياة المختلفة، والتي زادت في حياتنا المعاصرة لتشمل جميع مجالات الحياة إلا ما ندر منها، ولذا فهو من أهم الموارد التي لابد للفرد المؤمن الالتزام بها، وما نراه اليوم من شبابنا الذين تهاونوا كثيراً في هذا الأمر الإلهي مما يدعو للأسف والألم، فلابد للرجل من غض بصره عن النظر إلى المرأة الأجنبية، وكذلك غض المرأة بصرها عن النظر إلى الرجل الأجنبي، وهذا التشريك ينبغي الالتفات إليه، إذ المتعارف اليوم أن الرجل هو وحده المكلف بغض البصر عن المرأة وليس هذا تكليف المرأة، وهذا مخالف لصريح الآية المباركة.

ومعنى غض البصر هنا هو إما إنقاص البصر بما يؤدي إلى عدم التركيز على تفاصيل الشخص المقابل، فيتجنب الإثارة أو خوف الوقوع في الشهوة المحرمة.

وإما حجب البصر بتمامه في موارد يكون الحجب هو السبيل الوحيد لمنع النظر المؤدي إلى الافتتان والخوف من الوقوع في الحرام، فكم من نظرة قادت إلى شهوة فتدع الإنسان شارد البال مذهول العقل يرتطم بالمعاصي والذنوب ولا يقف عند حد، ناهيك عن الآثار النفسية التي تخلفها تلك النظرة المختلَسة إلى ما حرم الله، فتجعل الإنسان يقع فريسة الهم والحزن والمشاكل النفسية والصحية، وللأسف نجد شبابنا اليوم يتهاونون كثيراً في هذا الأمر كما نجد أنهم مخدوعون بوسائل الإعلام المشبوهة التي تُنَمِّي وتروّج لهذا الفعل الحرام بشتى الأساليب حتى صار عندهم أمراً طبيعياً، وفي الحديث الشريف عن أبي عبد الله(عليه السلام) : (النظر سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة)([2]).

 وأفضل علاج للنظرة المحرمة من كلا الجنسين:

 1-  تذكر الله في كل وقت وتذكير النفس أنه تعالى يرانا في كل آن ومكان فلا تخفى عليه خافية كما ورد في الآية الكريمة: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) ([3]).

 2- غض البصر وعدم التطلع في الأشخاص وتصفح وجوه الناس فإنها عادة ذميمة تورث تشويش البال والوقوع في المحرم فقد حثت روايات أهل البيتD على غض البصر لما يترتب عليه من الأثر الروحاني والثواب الإلهي لفاعله، كما في قول الإمام الصادق(عليه السلام): (من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غض بصره لم يرتد إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين) ([4])، وفي الحديث الشريف: (ما من مسلم ينظر امرأة أول رمقة ثم يغض بصره إلا أحدث الله تعالى له عبادة يجد حلاوتها في قلبه)([5]).

النظر تكون بمستويين:

الأعلى: وهو حرمة النظر الذي يقصد منه التلذذ وإثارة الشهوة، بتحري مناطق الإثارة في جسد المرأة - أي جزء كان حسب تركيبته النفسية - فيحرم في هذا المستوى النظر حتى إلى ما يجوز للمرأة إظهاره من الوجه والكفين إذا كان بهذا الداعي.

الأدنى: وهو حرمة النظر بريبة، والمراد من الريبة: هو خوف الوقوع في الحرام، وعليه فيحرم النظر إلى المرأة إذا كان الرجل يخاف من الوقوع في الحرام بسبب نظره هذا.

3-الفرج.

كما أكد القرآن الكريم على وجوب غض البصر في بعض الآيات المتقدمة، كذلك أكد على وجوب حفظ الفرج في آيات أخرى ومنها قوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)([6])، واستعمال مفردة حفظ الفرج، فيها من المعاني البليغة ما لا تخفى روعتها، فإن الحفظ معنى شامل لكل ما من شأنه أن يحقق العفة ولا يقتصر على مجرد الستر المادي للعضو عن طريق الملابس الساترة له، بل تشمل أيضاً التحفظ عليه بقطع كل السبل التي تقود إلى الاستعمال المحرم لهذه الجارحة المهمة في جسم الرجل والمرأة، وبالإضافة إلى هذا كله أن في هذه الكلمة إيحاءات أخلاقية وتربوية غاية في الروعة، إذ الحفظ يوحي بالأهمية من جانب، ومن جانب آخر قابلية العضو على الفساد المستلزم للعناية المستمرة والزائدة في سبيل حفظه، كما لو عبر أحدهم بأنه يهتم بحفظ صحته فإنه يفهم منه أنه يمارس نشاطاً رياضياً ويستعمل حمية معينة لتحقيق هذا الهدف، أو قال أحدهم إن الغذاء الفلاني لا بد من حفظه في مكان بارد جاف خوفا عليه من التلف، لذا فمفردة الحفظ تختزن من المعاني ما يكون معبراً تعبيراً حقيقياً عن معنى العفة بإطارها العام الشامل للجوانب النفسية والجسدية جميعاً، بعد ذلك أشار سبحانه إلى وجه المصلحة في هذا الحكم بقوله: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)([7])، وترتب هذه المصلحة على هذا الحكم مما يذعن به الإنسان العاقل بمجرد الالتفات إليه، فأغلب مفاسد الأمة الفردية والاجتماعية تنشأ من التهاون في هذا الجانب كما نشاهده عياناً في المجتمعات غير الإسلامية، وكذلك في مجتمعاتنا -للأسف- التي بدأت تحذوا حذوهم في هذا الأمر شيئاً فشيئاً.

وهذا الحكم يستوي فيه الرجال والنساء فكما أن هذه الآية كانت تخاطب الرجال جاءت الآية التي بعدها مخاطبة النساء فقال تعالى: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)([8])، فيفهم من مجموع هاتين الآيتين الشريفتين وجوب حفظ الفرج على كل من الذكر والأنثى، وهذا الحكم هو الحكم المتكامل الذي يضمن صلاح المجتمع، ويحقق العدالة الإنسانية أيضاً فكل من الجنسين مسؤول ومكلف ويساهم في حفظ المجتمع من الانحلال والتفسخ، بعد ذلك أشار إلى وجه المصلحة في الحكم وحثهم على المراقبة في جنبه، وحفظ الفرج ليس مما اختص به الله تعالى الرجال دون النساء بل الحكم شامل لكليهما لقوله تعالى: (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)([9]).

وقد وردت كذلك روايات كثيرة في الحث على حفظ الفرج لما له من الأثر الكبير في الابتعاد عن مقدمات الوقوع في الزنا والفجور- والعياذ بالله- لأن إبداءه بكل أشكاله ودرجاته وأساليبه يعد مدعاة لارتكاب الرذيلة، وانتشار الفساد وما يستتبعه من الأعمال المؤدية إلى انحطاط الجنس البشري، مما يؤدي إلى عدم الوقوف عند الثوابت الإسلامية وارتكاب ما حرمه الله تعالى، وبالتالي يسبب انهيار المجتمع بانهيار الحياة الزوجية والأسرة والنتائج الوخيمة التي تستتبعها وقوع كل من الرجل والمرأة في مشاكل نفسية واجتماعية تؤثر بالتالي على حياتهما تأثيراً مباشراً بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام.

3-إبداء الزينة.

نوّه القرآن الكريم إلى حكم من أحكام المرأة والذي له دور كبير في عفتها، وحفظ كيانها، وعدم إغواء الجنس الآخر به وهو الزينة، والمراد بالزينة هو ما تضعه المرأة على بدنها سواء كان على نحو الُلبس أو الصبغ أو غيرهما، واللبس منه ما يكون كالحلي ونحوها من الذهب والفضة وغيرها، أو الملابس التي تتزين بها، فحرّم عليها إبداء زينتها هذه إلى الأجنبي، والتزامها بذلك يساهم في حفظ كيان المجتمع من الانحلال والتفسخ الاجتماعي، وهو بالتالي حصانة كبيرة لنفس المرأة إذ الحجاب والاحتشام يرفع من قيمة المرأة في المجتمع وفي نظر الرجل، فينظر إليها لا أنها مجرد آلة لإرضائه وإشباع شهواته الجنسية، بل على أنها جزء مهم من المجتمع يتوقف عليه بناؤه الاجتماعي الذي أراده الله من الإنسان في هذه الحياة، فالمرأة ركن مهم في هذا البناء وهي النصف الأبرز في بناء أفراده وتربيتهم، وتقع عليها مسؤوليات جسام في تكوين الجيل الجديد الذي يرفد المجتمع بالرجال والنساء الصالحين إذا هيأت لهم التربية الجيدة، فقد نهى الله تعالى في هذا المقطع من الآية، وهو قوله سبحانه: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)([10]) عن كشف النساء لما يُعدُّ زينة مخفية، وذلك لأن معنى: (وَلَا يُبْدِينَ) أي لا يُظهرن، فهذه الزينة بشكلها الطبيعي ليست ظاهرة بل تحتاج إلى إظهار حتى تكون ظاهرة للغير، في مقابل ما لا يحتاج إلى إظهار لكي يكون ظاهراً من قبيل ما يكون على الوجه والكفين كالكحل والخاتم، فالآية الشريفة فرّقت بين القسم الأول وهو الزينة المخفية فنهت عن إظهاره وأجازت القسم الثاني فقط وهو الزينة الظاهرة، وقد ورد في الأحاديث عن أهل البيت Dما يوضح المراد من الزينة المنهي عنها في القسم الأول، فذكرت له أمثلة من قبيل القلادة والدملج([11]) والخلخال([12]) وكذلك يدخل فيه الملابس التي تلبسها لأجل التزيّن وأنواع الأصباغ التي تستعملها لذلك وغيرها، وهذا يختلف بحسب الزمان والمكان، وتفصيل ذلك مذكور في الرسائل العملية، وسيأتي بعضه في الاستفتاءات في آخر الكتاب.

4- ارتداء الحجاب الكامل.

إن الحجاب من أهم ما يساهم في عفة المرأة ونزاهتها، وإبعادها عن الوقوع في دائرة النظر المحرم للرجال الأجانب، لذلك أكد القرآن الكريم على أهمية ارتداء المرأة للحجاب المستوفي للشروط الشرعية الذي يكون ساتراً لجميع بدنها وفصّل في ذلك حيث ذكر في الآية المباركة: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)([13])، فأمر النساء أن يغطين رؤوسهن بالخمار الذي يشتمل على ستر الرأس والجزء الذي يحيط بأعلى الصدر وذلك بإسدال الخمار عليه.

إن التزام المرأة بالحجاب خير لها؛ لإبعادها عن مواضع الريبة، وكذلك عما يدعو إلى مساهمتها في تهييج القوة الشهوية عند الجنس الآخر وبالتالي يؤدي إلى الوقوع في الفساد وكل ذلك بإلفات نظره إلى محاسنها وما لا بد أن يخفى من بدنها، فالإسلام الحنيف أراد للمرأة أن تكون محافظة على كيانها وكيان المجتمع بالتزامها بستر ما حرّمه الله تعالى على الرجل الأجنبي.

5- عدم ضرب الأرجل لإفتان الجنس الاخر.

الإسلام له وجهة نظر دقيقة للحفاظ على كيان المرأة إذ يعتبرها عنصراً مهماً لحفظ كيان المجتمع، لذلك نجده يأمرها بحفظ عفتها وابتعادها عن كل شيء يثير نار الشهوة في قلوب الرجال كما في قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([14]) حتى لا تنحرف عن طريق العفة.

أوجب عليها أن تراقب تصرفها بشدة كما أشارت إليه الآية الكريمة، وأن لا يصل صوت خلخالها إلى أسماع الرجل غير المحارم، فاذا التزمت المرأة بذلك وأخفت زينتها لئلا تظهر فإنها قد صانت نفسها من الوقوع في الحرمة، وإغواء الجنس الآخر، وبالنتيجة تكون قد أفلحت ونجت من كل الانحرافات الخطرة التي تحيط بها وبالتالي تكون قد ساهمت في إنقاذ المجتمع من إفشاء الفساد وارتكاب الرذيلة.

بد أن يُعلم هنا أن ما ذكرته الآية الشريفة نموذج للتصرفات التي قد تمارسها المرأة - بمقتضى غريزتها وقابليتها الواسعة لإظهار مفاتنها- في جلب انتباه الرجال وإثارة الشهوة في نفوسهم، وإلا فالمحرّم هو كل تصرف يشير من طرف خفي إلى زينتها أو محاسنها الجسدية بأي شكل كان.

6- الزواج

إن من أهم القوى الغريزية التي أودعها الله تعالى في بني الإنسان هي قوة الشهوة والميل الطبيعي من كل صنف من صنفيه إلى الآخر، وهذا بعكس ما يتصوره البعض أو تصوّره بعض الأديان من أنها منشأ الشرور والمصائب ولابد للإنسان المتصل بربه والسالك لطريقه الابتعاد عن ذلك الجو والانشغال عن لذائذه والتنكر لنداء هذه الغريزة التي بداخله.

ولذا جاء الإسلام - وهو الدين الإلهي الصحيح الموافق للفطرة - على عدم تجاهل احتياجات الإنسان التكوينية، بل اعترف بها وشرّع ما يناسب كل منها بشكل بعيد تماماً عن الإفراط والتفريط.

ومن أهم المنافع التي تترتب على وجود غريزة الشهوة في الإنسان - بشكل ينفرد به عن باقي الحيوانات - هي حكمة الابتلاء والامتحان في الحياة، وذلك بخلق ما يحفز عند الإنسان دواعي كل من الخير والشر، لتستوي عنده ميوله لكل منهما، ثم بعد ذلك يكون لاختيار أحد هذين الطريقين قيمته الأخلاقية التي تستوجب المثوبة أو العقوبة، إذ أن الإنسان من دون خلق دواعي الانحراف في نفسه يكون مجبوراً على الطاعة، وبعد ذلك لا يكون لطاعته قيمة أخلاقية لأنها لم تصدر من محض إرادته واختياره، ذلك الاختيار الذي يمر بعقبات نفسية حتى يصل إلى مرحلة الإرادة الجازمة التي تدفعه نحو التحرك.

وبالإضافة إلى هذه النقطة المهمة – والتي يغفل عنها كثير من شبابنا الأعزاء – تبرز أهمية أخرى لهذه الشهوة، وهي الميل إلى الاقتراب من الطرف الآخر والاقتران به -  والتي يشترك فيها الإنسان مع باقي الحيوانات في ذلك - ولكن الله تعالى كرّم الإنسان وفضله على كثير ممن خلقه كما قال في محكم كتابه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)([15]) كان مقتضى ذلك أن لا يدعه يمارس مقتضى الشهوة هذه من التحرك والاندفاع نحو الصنف الآخر كيفما كان وبدافع حيواني فقط، بل شرع له أسلوباً خاصاً ومجالاً  محدداً  لإطفاء نار الشهوة، وهو الزواج، فإذا كان السبيل الوحيد والمنحصر لقضاء الوَطر من الجنس الآخر في الزواج يندفع الإنسان بشكل تلقائي نحوه، كونه المحقق الوحيد لرغبته الجامحة تلك.

ولما كان الزواج يعني فيما يعنيه ويستلزم كثيراً من التبعات واللوازم المفيدة غير إشباع الشهوة، من قبيل تأسيس بيت جديد وإنجاب الأطفال وتكوين أسرة صالحة وتربية أبنائه... إلخ من لوازم الزواج المهمة والمحققة لاستمرارية النوع، وتكامل المجتمع وقوته، كانت كل هذه التبعات واللوازم الحيوية في الحياة وتكوين المجتمعات منوطة ومرهونة بهذا التحريك الغريزي في الإنسان للاقتران بالآخر.

فانظر عزيزي القارئ - بعد كل هذا – كيف أن ما خلقه الله وأودعه في نفسك من شهوة الجنس كيف رسم لها بمقتضى حكمته أدواراً مهمة في الحياة لبقاء النسل وديمومة الحياة والحفاظ على انتظام كيان المجتمع، ولكن هذا كله مرهون ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بباقي تشريعات الله في الحياة، وهنا تكمن عظمة الدين كونه أطروحة متكاملة لنظام الحياة يضمن بتطبيقه كله السعادة، ولا يصح بتاتاً الانتقائية في تطبيقه، قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)([16]).

فلو لم يُحرِّم الإسلام الاختلاط العشوائي بين الجنسين كيفما شاءا ومتى ما شاءا وحصر ذلك في الزواج وهو الرباط المقدس الوحيد في الإسلام المحلل لهذا الاختلاط والسبيل الوحيد لإشباع هذه الغريزة المهمة لما سلك أحد هذا السبيل، بل سلك سبيلاً أقصر من ذلك يطفئ شهوته الآنية فقط من دون المرور بتلك القنوات والحلقات الكثيرة لذلك، و بذلك يفقد المجتمع الداعي الأبرز لديمومة بقائه بشكله الصحيح وهو نظام الأسرة، إذ يؤدي ذلك إلى تفكك الأسر وانعدامها شيئاً فشيئاً.

ولو لم يخلق الله تعالى الشهوة لانعدم أيضاً هذا الداعي إلى الاقتراب بين الجنسين ولما وجد الحافز  لتأسيس هذا البناء المهم في الحياة.

إذن المتحصل من كل ما ذكرنا، أن الله تعالى بمقتضى حكمته خلق الشهوة فيه لهدف نبيل وغرض سامٍ، ولكن كل هذا مشروط بالسير في هذه الحياة على الشكل الذي رسمه تعالى، وبذلك يفهم جانب من الجوانب الكثيرة من التطابق بين النظام التكويني والتشريعي، فالله المكون والخالق هو نفسه المشرع، فكان هذا التشريع متلائماً مع احتياجاته التكوينية.

ولكن ما نجده في المجتمع من أمر خطير يعد ضرباً لنظام الحياة ودعوة للتحلل من كل مقتضيات الحكمة تلك، هو إشاعة مجموعة من المفاهيم التي تخل بهذا النظام وتهدم البناء الإسلامي العظيم، ومن جملة هذه المفاهيم الهدامة التي تتراوح بين الإفراط والتفريط:

تصوير الشهوة والميل الجنسي عند الإنسان بأنه خطيئة وحالة دونية ينبغي أن يترفع عنها الإنسان، وأنها منشأ للخطايا والآثام، مما يعني التنكر لها والإعراض عن لوازمها من الزواج والاقتران، وهي دعوى الرهبانية التي حاربها الإسلام في منظومته الفكرية، حيث جاء عن النبي(صلى الله عليه وآله): (لا رهبانية في الإسلام)([17])، وورد عن عروة أنه قال: ( دخلت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون على عائشة وهي بادية الهيئة، فسألتها: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار! فدخل النبي(صلى الله عليه وآله) على عائشة فذكرت ذلك له، فلقي النبي(صلى الله عليه وآله) عثمان فقال: يا عثمان: إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيّ أسوة حسنة! فو الله إن أخشاكم وأحفظكم لحدوده لأنا)([18]).

التنفير من الزواج واعتباره حالة اجتماعية معقدة تكبل الشاب وتجعله فريسة المشاكل والعقبات الكثيرة التي لا قِبَلَ له بها، وتسبب له المشاكل المالية والمتاعب الحياتية التي هو في غنى عنها، إذ لا موجب له بعد استطاعته أن يشبع غريزته بالطريق السهل – الحيواني الصرف – من دون مسؤولية ولا تبعات معقدة.

وهذا الاتجاه الخطير يروّج له أعداء الإسلام كثيراً بين الشباب، بل - وللأسف - يهيئون له أسبابه الموضوعية، من خلق التعقيدات أمام الزواج، عن طريق إشاعة ثقافات بعيدة عن الإسلام تجعل إتمام الزواج يمر بقنوات مالية واجتماعية معقدة تصعب من تحققه، فالمهور الغالية والنظرة الاجتماعية التي لا تقبل بالشاب زوجاً إلا بمواصفات ما أنزل الله بها من سلطان و... إلخ، وفي المقابل توفير سبل الانحراف وتهيئة أسباب المجون والتهتك، كل ذلك خلق حالة من النفور – مقصودة – ليخلو الجو للشاب بعد ذلك لممارسة الخطيئة بمبررات يجدها منطقية.

ومن هنا لابد أن نبين أن الإسلام حث على تبسيط مقدمات الزواج وتقليل الكلف الأولية مهما أمكن فقد ورد في روايات كثيرة استحباب تقليل المهور فعن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائهD قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أفضل نساء أمتي أصبحهن وجها وأقلهن مهراً)([19])، وعدم رد الشاب المتقدم للخطبة إذا كان متديناً كما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)[20]، وعدم القلق من قلة ذات اليد قبل الزواج، والخوف من تبعات الحياة ومستلزمات الأسرة بعد الزواج، فقد قال تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)([21])، بل وأكثر من ذلك فقد جعل الإسلام الزواج أحد أهم الأسباب لزيادة الرزق كما ورد عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): الحديث الذي يرويه الناس حق: أن رجلا أتى النبي(صلى الله عليه وآله) فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج ففعل، ثم أتاه فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج حتى أمره ثلاث مرات؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): [ نعم ] هو حق، ثم قال: ( الرزق مع النساء والعيال)([22])، وكذلك إنجاب الأطفال: قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً )([23]).

لذا فالإسلام هيئ الأسباب الموضوعية والفكرية التي تحث الإنسان نحو الزواج لعلمه بأنه أهم سبيل لتحصين المجتمع من ممارسة الفاحشة، ذلك الداء الخطير الذي يقوّض أركان المجتمع ويهدد بنيانه.

خلق الأجواء الملائمة للتحلل وإشاعة الفاحشة في المجتمع عن طريق مجموعة من الأفكار الهدامة التي من شأنها تسهيل فرص الالتقاء المحرم بين الجنسين وتهيأة أسبابه الموضوعية، من قبيل مفهوم المساواة بين المرأة والرجل، ومفهوم الحرية، وإشاعة أجواء اللهو، وإيجاد مجموعة من التقنيات الحديثة التي ظاهرها جميل وباطنها خطير، من قبيل برامج الانترنت التي تدعو للاختلاط المحرم كالمحادثة والتواصل الاجتماعي، والدعوة للتحرر من قيود الدين، ووصفه بالرجعية، والإيحاء للمرأة بأساليب شيطانية وعبر وسائل إعلامية مشبوهة تثقف ليل نهار بهذا الاتجاه، بأن المرأة مخلوق للجمال ولابد لها أن تبرز مفاتنها وتستمتع بها، وكذلك من المفاهيم الهدامة أن الحياة قصيرة فعلينا عدم تضييعها والاستمتاع بها مهما أمكن إلى غير ذلك من العناوين التي ما هي إلا اتباع لخطوات الشيطان، فكل هذا وأكثر منه - مما لا سبيل لبيانه والخوض فيه والذي يستلزم شرحه إلى الخروج عن مقصود وهدف الكتاب- يدعو إلى التحلل وتوفير فرص الاختلاط المحرم وإثارة الشهوات وإخراجها من إطارها المقدس وجعلها هدفاً برأسه بعد أن كانت وسيلة مقدسة في هذه الحياة للبناء المفيد، وتحويلها إلى أداة هدامة للمجتمع.

فينبغي لنا كمجتمع رسالي أصيل أن نعرف عظمة ديننا وأحكامنا التي تنبع من تلبية احتياجات الإنسان أو الغرض الصحيح الذي خلق الله الحياة عليه، وينبغي لنا أيضاً أن نعي قوة الهجمة المضادة وشراستها وخطورة الأساليب المتبعة لتقويض هذا النظام وأن لا نساهم في انتشار هذه الأفكار الهدامة وتهيئة الأسباب الموضوعية لإرجاع المجتمع إلى الحالة السليمة التي رسمها الله لنا، لنضمن لأنفسنا ولأبنائنا وبالتالي مجتمعنا السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة.

 


[1] سورة النور: آية 31.

[2] الكافي: ج 5 ص 559.

[3] سورة غافر: آية 19.

[4] وسائل الشيعة: ج14ص 139.

[5] كنز العمال:ج 5 ص 327.

[6] سورة النور: آية30.

[7] سورة النور: آية30.

[8] سورة النور: آية 31.

[9] نفس المصدر: آية 31.

[10] سورة النور: آية31.

[11] الدملج: شيء كالسوار تلبسه المرأة في عضدها.

[12] الخلخال: حلقة من المعدن تضعها النساء للزينة في القدم عند الكعب.

[13] سورة النور: آية 31.

[14] سورة النور: آية 31.

[15] سورة الإسراء: آية 70.

[16] سورة البقرة: آية 85.

[17] دعائم الإسلام: ج2 ص193.

[18] كنز العمال: ج16 ص565.

[19] وسائل الشيعة : ج 21 ص 251 – 252.

[20] الأمالي للشيخ  الطوسي ص519.

[21] سورة النور: آية 32.

[22] الكافي: ج 5 ص 330.

[23] سورة الإسراء: آية31.