أشار القرآن الكريم في بعض المواضع من آياته إلى العفة، ومن خلالها بيّن أن لها موردين، وأشار أيضا إلى بعض الأمور التي يجب على الإنسان مراعاتها لكي يكون مؤهلاً للاتصاف بهذه الصفة وهي العفة، فمما يُستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال:
أولاً: جاءت العفة في قسم من تلك الآيات في مورد التعفف والترفع عما لا يملكه الإنسان من أموال الغير، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة: (لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)([1]).
وكذلك ما ورد في الآية الكريمة: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)([2]).
ثانياً: وذُكرت في القسم الآخر منها في مورد التسامي بالغرائز والرغبات الفطرية وهذا ما ذكرته الآيتان الكريمتان:
(وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)([3]).
(وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )([4]).
والمورد الثاني من موارد العفة التي أشار إليها القرآن هو الذي يقع فيه كلامنا، وإن كان كل من الموردين داخل في معنى العفة، ولكن المهم والذي ينعقد فيه البحث هو الثاني، فنقول:
إن الله تعالى لما جعل كتابه العزيز دستوراً للناس في هذه الحياة يسيرون على نهجه ويستضيئون بنوره، فقد ضمّنه كثيراً من الإرشادات العملية التي تكفل لمن يسير عليها حياة سعيدة في الدارين، وفيما يخص الجانب العملي للمرأة فقد أرشدها لكيفية التصرف الذي يضمن لها عفتها واحترامها في المجتمع بالإضافة إلى فوزها برضوان الله وفضله وجنته في الأخرة فلنستعرض معاً الآيات التي حثت المرأة على العفاف بشكل عملي لتكون بذلك قد ساهمت في تحصين المجتمع ضد الفساد والانحراف.
لذلك قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )([5])، وقال تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )([6]).
و قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )([7])
وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )([8]).
ومن الجدير بالذكر أن الحجاب والعفة والحياء لا تحمي المرأة من الأخطار والانتهاكات الخارجية فقط، بل توفر لها مناعة دائمة مضمونة التأثير ضد شهوات النفس وحجاباً واقياً ضد تسويلات الشيطان وإغوائه وحبائله حيث تغلق ابواب تلك الشرور وتجعل المرأة في مأمن من معصيته من جميع النواحي، ومنها:-
1- من ناحية البصر: إذ أن العين تزني وزنا العين النظر إلى ما حرم الله، فعن الصادق أو الباقر عليهما السلام قال: ( ما من أحد إلا وهو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبل، وزنا اليدين اللمس، صدَّق الفرجُ ذلك أم كذَّب)([9])، فكل من هذه الممارسات مراتب للزنا، والمرتبة الأشد هي التي تكون في الفرج، وهذا الحديث من الأحاديث الرائعة التي توسع معنى الزنا وتجعله شاملاً لكل مقدماته ولا يقتصر على المعنى المعروف منه.
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفاً من الله أعطاه إيماناً يجد حلاوته في قلبه)([10]).
2- من ناحية السمع: إذ أن الأذن تزني وزنا الأُذن السماع إلى ما حرم الله، وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس في مجتمعنا هذه الأيام - للأسف الشديد-، فإن من جملة المحرمات الحديث بين الشباب والفتيات في الجامعات وأماكن العمل المختلطة وما ينجر إليه من المفاكهة والمضاحكة والقول بالباطل، فإنه كله من مصاديق زنا السمع.
3- من ناحية اللسان: فتحفظ المرأة نفسها من الخوض في الحديث الباطل مع الرجال لأنه ورد في الحديث عن الصادق، عن آبائه Dعن رسول الله(صلى الله عليه وآله)- في حديث المناهي - قال: (ونهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات مما لابد لها منه)([11]).
أي الحديث يكون عند الحاجة وبمقدار الضرورة ولا يكون بصوت خاضع كما في قوله تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا )([12])، حيث إن الخضوع في الصوت يثير شهوة الطرف الأخر وإن لم يكن عن قصد، ولذا ورد النهي المتقدم من النبي(صلى الله عليه وآله) في الحديث عما زاد على مقدار الضرورة، صونا للمجتمع من إثارة كوامن الفساد وتهييج الغرائز التي من المفترض أن يكون لها إطار خاص تتحرك فيه وهو بيت الزوجية فقط.
فما نجده في مجتمعاتنا من الحديث بالباطل بين النساء والرجال، وكذلك ما شاع في هذه الأيام من تسويلات شيطانية بعناوين براقة مزيفة مثل الدردشة والتواصل الاجتماعي وغيرها مما ابتدعه الغرب بالدرجة الأولى لإفساد مجتمعاتنا، كله من حبائل الشيطان وخدعه ومزالقه التي ينبغي للمؤمن عدم السير فيها والتجنب عن سلوكها.
[1]سورة البقرة: آية 273.
[2] سورة النساء: آية 6.
[3] سورة النور: آية 33.
[4] سورة النور: آية60.
[5] سورة الاحزاب: آية 59.
[6] سورة النور: آية 31.
[7] سورة الاحزاب: آية 33.
[8] سورة الاحزاب: آية 53.
[9] مشكاة الانوار: ج 1 ص 122.
[10] مستدرك الوسائل: ج 14 ص 268.
[11] وسائل الشيعة : ج 20 ص 197.
[12] سورة الاحزاب: آية 31.