تجلّت فصاحته (عليه السلام) وبلاغته في الخطب العصماء التي خطبها في الكوفة في مجلس الطاغية عبيد الله بن زياد، وفي الشام في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية، ثمّ في المدينة المنوّرة بعد عودته من الشام، فقد روي أنّ يزيد أمر الخطيب أن يرقى المنبر، ويثني على معاوية ويزيد، وينال من الإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام)، فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأكثر الوقيعة في علي والحسين، وأطنب في تقريض معاوية ويزيد، فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام): (ويلك أيها الخاطب، اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق؟ فتبوأ مقعدك من النار)، ثمّ قال (عليه السلام): (يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب)، فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له ليصعد، فعلنا نسمع منه شيئاً، فقال لهم: إن صعد المنبر هذا، لم ينزل إلا بفضيحتي، وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا: وما قدر ما يحسن هذا ؟ فقال: إنّه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا.
ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناس، أُعطينا ستاً، وفُضِلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأن مِنّا النبي المختار محمد (صلى الله عليه وآله)، ومِنّا الصدّيق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد الرسول، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنا سبطا هذه الأمّة، وسيدا شباب أهل الجنة، فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي: أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق، حتى قالوا لا اله إلا الله، أنا ابن من بايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، يعسوب المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، سمح سخي، بهلول زكي، ليث الحجاز، وكبش العراق، مكّي مدني، أبطحي تهامي، خيفى عقبي، بدري أحدي، شجري مهاجري، أبو السبطين، الحسن والحسين، علي بن أبي طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن بضعة الرسول...).
قال: ولم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضَجَّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذّن يؤذّن، فقطع عليه الكلام وسكت، فلمّا قال المؤذّن: الله أكبر، قال علي بن الحسين (عليه السلام): (كَبَّرتَ كبيراً لا يقاس، ولا يُدرك بالحواس، ولا شيء أكبر من الله )، فلمّا قال: أشهد أن لا اله إلا الله، قال علي (عليه السلام): (شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي، ومخي وعظمي)، فلمّا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، التفت علي (عليه السلام) من أعلا المنبر إلى يزيد، وقال: (يا يزيد محمد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت إنه جدّك فقد كذبت، وان قلت أنه جدّي، فَلِمَ قتلت عترته؟)[1].
هذا ناهيك عن الصحيفة السجّادية الكاملة، وما جاء فيها من عبارات الدعاء الرائعة والمضامين الجليلة، وبلاغة اللفظ وفصاحته وعمقه، والحوارات الجميلة والعبارات اللطيفة الجزيلة التي يعجز البلغاء والشعراء عن إيراد مثلها، وقد عُرفت الصحيفة بـ)زبور آل محمّد).