علاج الرياء

أما الأدوية العلمية القالعة لجذور الرياء فمنها:

1- استحضار مراقبة الله تعالى للعبد: فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في وصيته لأبي ذر: (يا أبا ذر أعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك)[1]. فمن استشعر رقابة الله له في أعماله يهون في نظره كل أحد، ويوجب له ذلك التعظيم والمهابة لله تعالى.

2- أن يسعى الإنسان إلى الاتصاف بضد الرياء وهو الإخلاص وأصل الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قيل لبعضهم، عليك بعمل العلانية قال: وما عمل العلانية؟ قال: ما إذا اطّلع الناس عليه لم تستحِ منه، وهذا مأخوذ من كلام سيد الأوصياء ووالد الأئمة الأمناء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله الطيبين حيث يقول: (إياك وما تعتذر منه، فإنه لا يُعتذر من خير، وإياك وكل عمل في السر تستحي منه في العلانية، وإياك وكل عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره)[2]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أعلى منازل الإيمان درجة واحدة، من بلغ إليها فقد فاز وظفر وهو أن ينتهي بسريرته في الصلاح إلى أن لا يبالي لها إذا ظهرت ولا يخاف عقابها إذا استترت)[3].

3- ليعلم أن الرياء مُوجِب للمَقت من الله ومعرِّض للخزي في الدنيا والآخرة حيث ينادى على المرائي يوم القيامة على رؤوس الأشهاد: يا فاجر يا غاوي يا مرائي أما استحيت إذ اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا، راقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله وتحبّبت إلى العباد بالتبغّض إلى الله وتزينت لهم بالشين عند الله وتقرّبت إليهم بالبعد من الله وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله أما كان أحد أهون عليك من الله)[4]، فمهما تفكر العبد في هذا الخزي، وقابل ما يحصل له من العباد، والتزّين لهم في الدنيا بما يهدم عليه من ثواب أعماله التي كانت ترجّح ميزانه لو خلصت لله وقد فسدت بالرياء، وقد حوّلت إلى كفة السيئات، فلو لم يكن في الرياء إلا تحويل العمل من الثواب إلى العقاب لكان كافياً في معرفة ضرره ورادعاً عن الإلمام به وقد كان ينال بهذه الحسنات رتبة الصديقين وقد حط إلى درك السافلين، فيا لها حسرة لا تزال، وعثرة لا تستقال مع ما يناله من الخزي والتوبيخ في المعاد على رؤوس الأشهاد.

 4- الرياء يعرّض صاحبه في الدنيا إلى الهمّ بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضا الناس غاية لا تُدرك، فكلما رضي عنه فريق سخط عليه فريق آخر، ومن طلب رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه.

5- أن يتذكر المرائي أن مدح الناس وذمهم لا ينفعه عند الله يوم القيامة، وأي غرض يتحقق له في مدح الناس وإيثار ذم الله تعالى لأجل حمدهم؟ ولا يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً، ولا ينفعه يوم فقره وفاقته في شدة القيامة، وأما الطمع بما في أيديهم فالله هو الرزاق وعطاؤه خير العطاء، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلى المراد لم يخل من المِنّة والمهانة، وكيف يترك العاقل ما عند الله برجاءٍ كاذب ووهمٍ فاسد؟ وقد يصيب وقد يخطئ، وإن أصاب فلا ترفع لذته ألم منّته ومذلته وهو مِن قِسَم الله له ومحسوب عليه من رزقه، فينبغي أن يقرر العاقل في نفسه هذه الأسباب وضررها وما يصير إليه مآلها فيُقلّ رغبته عنها، ويُقبِل إلى الله بقلبه فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر عليه ضرره.

6- ليعلم المرائي أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهاره الإخلاص لمقتوه، وسيكشف الله تعالى عن سره حتى يُبغِّضه إليهم و يُعرِّفهم أنه مراءٍ ممقوت عند الله تعالى، ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحبّبه إليهم وسخّرهم له وأطلق ألسنتهم بحمده.

7- روي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: (لأعبدنَّ الله عبادة أُذكَر بها فمكث مدة مبالغاً في الطاعات، وجعل لا يمر بملاء من الناس إلا قالوا: متصنع مراء، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك وضيعت عمرك في لا شيء، فينبغي أن تعمل لله سبحانه، فغير نيّته وأخلص عمله لله تعالى فجعل لا يمر بملاء من الناس إلا قالوا: ورع تقي)[5]، ومثل هذا الحديث ما روي في الحديث القدسي: (عملك الصالح عليك ستره وعلي إظهاره)[6]، وكما ورد عن نبي الله عيسى(عليه السلام): (إن الله يقسّم الثناء كما يقسم الرزق)[7].

8- ليعلم المرائي أن مدح الناس لا ينفعه وهو مذموم عند الله ومن أهل النار، وذمهم لا يضره وهو محمود عند الله في زمرة المقربين وكيف يضره ذمهم أو كيدهم والنبي (صلى الله عليه وآله)يقول: (من آثر محامد الله على محامد الناس كفاه الله مؤنة الناس)[8]، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (من أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس)[9].

9- ينبغي أن يذكر الإنسان شدة حاجته وقوة فاقته يوم القيامة إلى ثواب أعماله فإنه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[10].(لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً)[11]، ويشتغل فيه الصديقون بأنفسهم ويقول كل واحد نفسي نفسي، فضلاً عن غيرهم، فلا ينبغي أن يصحب معه غير الخالص من العمل، فكما أن المسافر إلى البلد البعيد المشفق لا يصحب معه إلا خالص الذهب طلباً للخفة وكثرة الانتفاع به عند الحاجة إليه، ولا حاجة أعظم من فاقة القيامة، ولا عمل أنفع من الخالص لله، فهو أنفس الذخائر وأحفظها حملاً، بل هو يحمل صاحبه على ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ)[12]، فإن العمل الصالح يقول لصاحبه عند أهوال القيامة: (اركبني ولطالما ركبتك في الدنيا فيركبه ويتخطى به شدايدها)[13].

10- ترك صحبة المعروفين بالرياء، ثم الارتماء في أحضان المخلصين الصادقين؛ فإن ذلك له دوره في إقلاع النفس عن هذه الآفة، حتى تبرأ منها تماماً.

11- الوقوف على أخبار المرائين، ومعرفة عواقبهم فإن ذلك مما يساعد على تجنب هذا الداء، أو هذه الآفة؛ لئلا تكون العاقبة كعاقبة هؤلاء.

وأما الدواء العملي فإنه يعوّد نفسه إخفاء العبادات ويغلق دونها الأبواب كما يفعل بالفواحش ويقنع باطلاع الله وعلمه، ولا ينازع نفسه إلى طلب علم غير الله فلا دواء أنجح من ذلك، وكان عيسى (عليه السلام) يقول للحواريين: (إذا صام أحدكم صوماً فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه بالزيت لئلا يرى الناس أنه صائم، وإذا أعطى بيمينه فليُخفِ عن شماله، وإذا صلى فليرخِ ستر بابه، فإن الله يقسّم الثناء كما يقسّم الرزق)[14]، وذلك وإنْ شقّ في بداية المجاهدة، لكن إذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه بتواصل ألطاف الله وما يمده به من حسن التوفيق والتأييد: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[15]، فمِنَ العبد المجاهدة ومِنَ الله الهداية: (إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[16].

تذنيب: وإذا أسررت العمل وأخفيته، وعرفت خلوصه لله سبحانه فلا تقول فيما بعد: انه لم يقع إلا مخلصاً، وقد كتب في ديوان الحسنات فتعلنه بعد ذلك ويقلّ همك عن كتمانه، وتنقله من ديوان السر إلى ديوان الجهر فيقل أجرك، على ما روي عنهم (عليهم السلام): إن فضل عمل السر على عمل الجهر سبعون ضعفاً، وعن الصادق (عليه السلام): (من عمل حسنة سراً كتبت له سراً فإذا أقرّ بها مُحيت وكُتبت جهراً فإذا أقرّ بها ثانياً مُحيت وكتبت رياءً)[17].

 


[1] الأمالي: ص526.

[2] بحار الأنوار: ج68، ص369 .

[3] المصدر السابق: ج71، ص 369.

[4] مجموعة ورام: ص99.

[5] عدة الداعي: ص216.

[6] عدة الداعي: ص210 .

[7] المصدر السابق: ص220.

[8]عدة الداعي: ص216.

[9] المصدر السابق: ص216.

[10] سورة الشعراء: آية 88- 89.

[11] سورة لقمان: آية33.

[12] سورة الزمر: آية61.

[13] عدة الداعي: ص216.

[14] عدة الداعي: ص220.

[15] سورة الرعد: آية 11. 

[16] سورة التوبة: آية 120.

[17] عدة الداعي: 221.