عتقه (عليه السلام) للعبيد

رغم ما كان يعانيه  (عليه السلام) من التضييق عليه من قبل بني أمية، بعد قتل أبيه الحسين  (عليه السلام) إلا أنه مع ذلك لم يدّخر وسعاً في نشر علوم الدين ومكارم الأخلاق، فكان يمارس دوره القيادي للأمة رغم الأخطار، ولقد ابتكر سلام الله عليه اسلوباً يتسم بالحكمة والذكاء ويجمع كل أنواع الخير والبركة، كيف لا وهم معدن العلم وموئل الندى وبحر الجود والكرم ومنبع الحكمة، فقد كان يشتري العبيد في كل سنة فيُعلّمهم الدين ومكارم الأخلاق ثم بعد ذلك يعتقهم ويعطيهم المال ليبدأوا به حياتهم الحرة الكريمة، وكان هذا الفعل منه  (عليه السلام)، سراً من أسرار الإمامة ومعجزاً من معاجزهم (عليهم السلام)، إذ جمع به ما لا يحص من الفوائد، فقد كانت حركة فكرية في صمت وهدوء بعيداً عن أعين الظلمة، وكان نشراً لفضائل أهل البيت(عليهم السلام) في وقت امتنع المحدث بها والناشر لها، وكانت حركة اجتماعية في القضاء على الطبقية والعبودية، وحركة اقتصادية في نشر المال لمن يتجر به... إلى غير ذلك من الأهداف التي يعجز اللسان عن تعدادها والعقل عن احتوائها.

عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (كان علي ابن الحسين (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة، يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فيجتمع عليهم الأدب، حتى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤدبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتى يأتي على آخرهم ويقررهم جميعا، ثم يقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت، كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها، وتجدُ كل ما عملتَ لديه حاضرا، كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضرا، واصفح كما ترجو من المليك العفو وكما تحب أن يعفو المليك عنك، فاعف عنا تجده عفوا، وبك رحيما، ولك غفورا، ولا يظلم ربك أحدا، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيناها إلا أحصاها، فاذكر يا علي بن الحسين ذل مقامك بين يدي ربك الحَكَم العَدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيبا وشهيدا، فاعف واصفح يعفو عنك المليك ويصفح، فإنه يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ)[1]، قال: وهو ينادي بذلك على نفسه ويُلقّنهم، وهم يُنادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: رب إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نرد سائلا عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالا [2] ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تخيبنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني، إذ كنت من سؤّالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم، ثم يُقبِل عليهم ويقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عني ومما كان مني إليكم من سوء ملكة، فإني مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل، فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا وما أسأت، فيقول (عليه السلام) لهم قولوا: اللهم أعف عن علي بن الحسين كما عفى عنا، وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق، فيقولون ذلك، فيقول: اللهم آمين يا رب العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلا وكان يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأسا إلى أقل أو أكثر، وكان يقول (عليه السلام) : إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار، كُلّاً قد استوجب  النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني الله، وقد أعتقت رقابا في مِلكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النار)[3].

 

 


[1] سورة النور: آية 22.

[2] سائلا.

[3] إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس: ج1،ص445.