السرور بالاطلاع على العبادة

ينقسم سرور الإنسان باطلاع الناس على عمله إلى قسمين مذموم ومحمود:

أما السرور المذموم: فهو أن يكون فرحه لارتفاع منزلته عندهم ليمدحوه ويعظموه ويقوموا بقضاء حاجاته، ويقابلوه بالإكرام والتوقير، فهذا رياء حقيقي، وهو محبط للعمل ومحوله من كفة الحسنات إلى كفة السيئات، ومن ميزان الرجحان إلى ميزان الخسران، ومن درجات الجنان إلى دركات النيران.

 وأما السرور المحمود: فهو أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، فإذا أتفق اطلاع الناس على طاعته فلا بأس بالسرور به، وهذا السرور له مناشيء متعددة منها:

لأنه يستدل على حُسن صنع الله به من حيث علمه بأن الله أطلعهم عليه وأظهر الجميل من عمله تكرماً منه وتفضلاً وهو من صفاته تعالى ألا تراه يدعى (يا من أظهر الجميل وستر القبيح)، حيث أن العبد ستر الطاعة والمعصية، والله تعالى أبقى معصيته على الستر وأظهر طاعته، ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الحسن فيكون فرحه بجميل نظر الله وفضله له لا بمدح الناس وحصول المنزلة في قلوبهم، وقد قال الله تعالى:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)[1]، وكأنه ظهر له بظهور طاعته أنه عند الله مقبول ففرح به.

أو لأنه يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح في الدنيا أنه كذلك يفعل به في الآخرة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة)[2]، فالأول فرح بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل وهذا التفات إلى المستقبل.

أو بسبب ظنه رغبة المطلعين في الاقتداء به في الطاعة، فيتضاعف بذلك أجره، إذ يكون له أجر السر بما قصده أولاً، وأجر العلانية بما أظهره آخراً، ومن اقتدى الناس به في طاعة فله أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

أو بسبب فرحه بطاعة المطلعين عليه لله في مدحهم وحبهم للمطيع، وميل قلوبهم إلى الطاعة، إذ من الناس من يمقت أهل الطاعة أو يستهزئ بهم وينسبهم إلى الرياء، فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله، وعلامة الإخلاص فيه: أن يكون سروره بمدحهم غيره مثل سروره بمدحهم إياه.

ويدل على عدم البأس بالسرور فيما ذكر ما روي: (أن رجلاً قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إني أُسِرُّ العمل لا أُحِبُّ أن يطلع عليه أحد فيطلع عليه فيسُرُني! قال: لك أجران: أجر السَّر وأجر العلانية)[3].

وما روي: (أنه سئل الباقر (عليه السلام) عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك، قال: لا بأس، ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر الله له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك)[4]، أي صنع العمل لأجل رؤية الناس ومدحهم.

وهذان الخبران يدلان على نفي البأس بالسرور لأجل المقاصد المذكورة، ويخصص بهما ما هو المذموم من الفرح الحاصل من اطلاع الناس بما إذا كان هذا الفرح حاصلاً من اطلاع الناس مع قصده ذلك، وإن كان قصده الإخفاء أولاً، وهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتى يمدحوه يعظموه ويقوموا بحوائجه.

 ثم كما لا بأس بالسرور من ظهور الطاعات للمقاصد المذكورة، فكذلك لا بأس بكتمان المعاصي واغتمامه باطلاع الناس عليها لأسباب نذكرها، بل الحق رجحان الكتمان ومزيته بعد ارتكابها، وإن كان الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية، ولذا قال بعض الأكابر: (عليك بعمل العلانية وهو ما إذا ظهر لم تستح منه)، إلا أن ذلك درجة عظيمة ليست شِرعة لكل وارد، ولا يصل إليها إلا واحد بعد واحد، إذ كل إنسان - إلا من عصمه الله - لا يخلو من ذنوب باطنه، لا سيما ما يختلج بباله من الأماني الباطلة والأمور الشهوية، والله مطلع عليها وهي مخفية عن الناس، والسعي في إخفائها وكراهة ظهورها جائز بل راجح، بشرط ألا يكون باعثُ إخفائها قصد أن يعتقدوا فيه الورع والصلاح، بل كان الباعث:

1- إما كون السر مأموراً به.

2- أو كون الهتك وإظهار المعاصي منهياً عنه. قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من أرتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستره بستر الله تعالى)[5]، ويعرف صدق ذلك بكراهة ظهورها عن الغير، أو كون ستر الله عليه في الدنيا دليلاً على ستره في الآخرة، لما ورد في الخبر: (ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة)[6].

3- أو كون ظهور المعاصي موجباً لذم الناس، والذم يؤلم القلب ويشغله عن طاعة الله، ويصده عن الاشتغال بتحصيل ما خُلق لأجله، ولكون التألم بالذم من طبيعة الإنسان غير ممكن الدفع بسهولة، فلذا يكون إخفاء ما ظهوره يؤدي إلى حدوثه جائزاً. نعم، كمال الصدق استواء المدح والذم، إلا أن ذلك قليل جداً، وأكثر الطباع تتألم بالذم، لما فيه من الشعور بالنقصان، وربما كان التألم بالذم ممدوحاً إذا كان الذام من أهل البصيرة في الدين، فإن ذمه يدل على وجود نقصان فيه، فينبغي أن يتألم منه ويسعى لدفعه.

4- أو كون الناس شهداءه يوم القيامة، كما ورد فيجوز الإخفاء لئلا يشهدوا عليه يوم القيامة.

5- أو خوف أن يُقصَد بشر أو بسوء إذا عُرِف ذنبه.

6- أو خوف صيرورة الذام عاصياً بذمه، وهذا من كمال الإيمان، ويعرف بتسوية ذمه وذم غيره، أي: خوفه على الذام من أن يكون عاصياً بذمه لا يختلف فيه بين أن يذمه أو يذم غيره.

7- أو خوف سقوط وقع المعاصي من نفسه واقتداء الغير به فيها وهذه العلة هي المبيحة لإظهار الطاعة، ويختص ذلك بمن يُقتدى به من الأئمة وأمثالهم ولهذه العلة ينبغي أن يخفي العاصي معصيته من أهله وولده أيضاً، لئلا يقتدوا به فيها.

8- أو حبه محبة الناس له لا للتوسل بها إلى الأغراض الدنيوية، بل ليستدل بها على محبة الله تعالى له، لأن من أحبه الله تعالى جعله محبوباً في قلوب الناس.

9- أو مجرد الحياء من ظهور قبائحه وهو غير خوف الذم والقصد بالشر، إذ هو من فضائل الأخلاق ومن كريم الطبع قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحياء خير كله)[7].

وقال الصادق (عليه السلام): (الحياء شعبة من الإيمان)[8]، ومن صدر عنه فسق ولم يبال بظهوره للناس، فقد جمع إلى الفسق الهتك وعدم الحياء - أي الوقاحة - فهو أسوأ حالاً ممن يفسق ويستحي فيستره.

 


[1] سورة يونس: آية 58.

[2] جامع السعادات: ج2، ص295.

[3] بحار الأنوار: ج69، ص274.

[4] الكافي: ج2، ص225.

[5] المبسوط: ج8، ص177.

[6] جامع السعادات: ج2، ص295.

[7] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص271.

[8] عوالي اللآلي: ج1، ص59.