وردت لفظة الربا في آيات كثيرة أهمها:
1 - قوله تعالى: (وما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ الله، وما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْه الله فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)[1].
فقد زهّد الله تعالى الناس في الربا، وبيّن أنه عمل مقتصر أثره من الزيادة الظاهرية على الحياة الدنيا، من دون أن يستمر ذلك النمو والربح إلى دار الآخرة، بل هو منقطع مقصور على الدنيا، وأعطى البديل النافع وهو الزكاة، فالزكاة نمو للمال في عالم الدنيا، والثواب في عالم الآخرة.
وهذه الآية من الآيات التي لم تتعرض لعقاب الربا، بل هي متصدية ابتداء وفي الدرجة الأولى لبيان المضار المادية له، من الانقطاع وعدم الاستمرار فقط، وهي نظير ما ورد في حرمة الخمر من التدرج في بيان الحكم من نفي المنافع منه، ثم بيان أنه رجس، ثم الأمر بعدم الاقتراب منه عند الصلاة، ثم الأمر باجتنابه مطلقاً.
2- وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )[2].
وفي هذه الآية الشريفة قَرَن الله تعالى بين النهي عن أكل الربا وبين التقوى ومخافة الله، ثم مخافة النار التي أعدت للكافرين، وفيها إيحاء بأسلوب بلاغي رائع بأن الربا ينافي التقوى ويورث عقوبة النار وصدق الكفر على المرابي، وهذه الآية بدأت بالتلويح بالعقوبة الأخروية كما هو واضح، لتمهد للتحريم المستفاد من الآيات الآتية.
3 - وقال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً* وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً )[3].
وهنا يذم الله تعالى اليهود بعرض جملة من تصرفاتهم المخالفة لما أمرهم به الله تعالى، ومنها: أكل الربا، فهم بهذا العمل مخالفون لأحكام الله النازلة عليهم، ومستحقون للعذاب الأليم، وقد وصفهم الله تعالى بالكفر بسبب ذلك، وهذا الكلام يجري على المثل العربي: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، إذ أن الله تعالى يريد بذلك التمهيد إلى تحريم الربا وبيان عقوبته، في هذه الأمة.
4 - وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)[4].
وهنا وصل البيان الإلهي إلى مستوى الصراحة والتعبير عن الحكم الشرعي، وهو تحريم الربا بأقوى الألسنة، حيث قرن بين التقوى وترك الربا، ثم التهديد بالحرب لمن لم ينته عنه، وفتح باب التوبة لمن انتهى.
5- وقال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُه الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا، فَمَنْ جاءَه مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّه، فَانْتَهى، فَلَه ما سَلَفَ، وأَمْرُه إِلَى الله ومَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، يَمْحَقُ الله الرِّبا، ويُرْبِي الصَّدَقاتِ والله لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)[5].
فهذه الآيات التي تتحدث عن الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدة في مكة والمدينة والجزيرة العربية حتى غدا عاملاً مهماً من عوامل تكوّن الطبقية في الحياة الاجتماعية، وسبباً من أهم أسباب تكريس الضعف لدى الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية، لذلك فإن الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من أهم الحروب الاجتماعية التي خاضها الإسلام، وقد اتسمت -كما مر- بالتدرج في بيان الحكم الشرعي مما يشير إلى مدى انتشاره في المجتمع وتعلقه بالنفوس وصعوبة اقتلاع جذوره منها.
يقول تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ)[6].
فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الاحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبط في خطواته، ولعل المقصود هو وصف (المسيرة الاجتماعية للمرابين) في الدنيا على اعتبار أنهم أشبه بالمجانين في أعمالهم، فهم يفتقرون إلى التفكير الاجتماعي السليم، بل إنهم لا يشخّصون حتى منافعهم الخاصة، وأن مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم، إذ أن عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنها تعميهم عن إدراك ما ستؤدي إليه أعمالهم التي تتسم بالجشع والاستغلالية، من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرّض أساس الملكية للخطر، وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والاستقرار، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي، ولذلك فإنه يجني على نفسه أيضاً بعمله الجنوني هذا، ولكن المرابي لقصور نظره لا يدرك الآثار البعيدة للربا ويقتصر على مصالحه الوقتية القريبة، فصاحب الحاجة ،كما قيل، أعمى لا يرى إلا قضاء حاجته، والأعمى يتخبط في مسيره مرتطماً بما لا يراه مما عميت عينه عن رؤيته، وهذا عين ما عبر عنه القرآن بقوله: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ)[7]. مع ما في تعبير القران من بلاغة وإيحاءات تأخذ بالنفوس، مع ما فيه من إضافة عنصر الإطاعة للشيطان والتلاعب به، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن حقيقة الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم، فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين، أي أن الذين يقومون في الدنيا قياماً غير متعقل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سيحشرون يوم القيامة كالمجانين.
ويؤيد ذلك ورود الروايات عن المعصومين (عليهم السلام) للتعبير عن كلا المعنيين، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: (آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان)[8]، وفي رواية أخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمهم غير مصالحهم الخاصة، وما ستجره عليهم أموالهم المحرمة قال: (لما أسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)[9]. الحديث الأول يبين اضطراب الإنسان في هذه الدنيا، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة، فكما أن الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالاً عليهم[10].
[1] سورة الروم: آية 39.
[2] سورة آل عمران: آية 130- 131.
[3] سورة النساء: آية 160- 161.
[4] سورة البقرة: آية 278-279.
[5] سورة البقرة: آية 275- 276.
[6] سورة البقرة: آية 275.
[7] سورة البقرة: آية 275.
[8] تفسير العياشي: ج1، ص152.
[9] بحار الأنوار: ج100، ص116.
[10] تفسير الأمثل: ج2، ص336- 339، بتصرف.