لأن الإسراف مرتبطٌ بمختلف جوانب الحياة المادية والمعنوية؛ فإن له صوراً عديدة وأشكالاً مُختلفة، الأمر الذي يترتب عليه الكثير من المفاسد الدينية والدنيوية التي تُدّمر المجتمعات، وتقضي على الأخلاق، وتعبث بالاقتصاد، وتؤدي إلى الكثير من المضار والآثار السيئة التي من أعظمها أن الله تعالى لا يُحب المسرفين، وأن الإسراف مسلكٌ خاطئ، وتصرف غير سوي.
أما صور الإسراف فكثيرةٌ جداً إذ أن منها ما يكون على مستوى الفرد، ومنها ما يكون على مستوى المجتمع، فهناك مَن يُسرف في استخدام الماء واستعماله، لاسيما الماء الصالح للشـرب فيهدره في ريّ المزروعات وغسل السيارات، أو يبالغ في استخدامه منزلياً سواء كان ذلك في المطابخ أو دورات المياه ونحو ذلك، بل نجد في الروايات أن هذا أمر مذموم حتى لو كان في أعمال عبادية كالوضوء والغسل، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (في الوضوء إسراف، وفي كل شيء إسراف)[1].
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن لله ملكا يكتب سرف الوضوء كما يكتب عدوانه)[2].
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)يتوضأ بمُد ويغتسل بصاع)[3].
وهناك من يسرف في تناول أصناف الأطعمة الشهية، وألوان المشروبات المختلفة، دون مراعاة لما ينتج عن ذلك من مخالفة لتعاليم الدين وتوجيهاته التي قال فيها عز وجل: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[4]. إضافةً إلى ما في ذلك من إضاعةٍ للمال في غير وجه حق، وإضرارٍ بالصحة التي تختل وتضطرب جراء ذلك الإسراف.
كما أن هناك من يسرفُ في شراء الملابس واقتنائها بطريقة أو بأخرى، غير مبال بما ينفقه في ذلك من أموال تضيع فيما لا فائدة فيه ولا نفع منه.
ثم إنه يجب أن يُعلم أن ثلاثة أقسام من الإسراف هي حرام في جميع الحالات، والأزمنة، والأمكنة، ولكل الأشخاص.
الأول: تضييع المال وإتلافه مهما كان قليلا، مثل رمي نواة التمر في وقت يمكن الاستفادة منها، أو إراقة المتبقي من الماء في الإناء في حال قلة الماء بحيث يمكن رفع الحاجة بذلك المقدار كما تقدم ذكر ذلك في الأحاديث السابقة، أو إتلاف الثوب القابل للاستفادة منه، أو عدم الاعتناء به، أو خزن الطعام وعدم دفعه للغير حتى يتلف، ومثل إشعال المصباح مع وجود ضوء الشمس، ومثل إعطاء المال للسفيه أو الصغير الذي لا يعرف قدره فيتلفه، وأمثال ذلك.
عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه نظر إلى فاكهة قد رميت من داره لم يستقص أكلها فغضب وقال: (ما هذا، إن كنتم شبعتم فإن كثيراً من الناس لم يشبعوا فأطعموه مَن يحتاج إليه)[5].
وأما بالنسبة إلى إلقاء باقي الطعام خصوصاً فتات الخبز، فقد وردت روايات كثيرة لسانها لسان التهديد - إلا إذا كان ذلك في الصحراء لأجل الحيوانات - يطول الكلام بذكرها ولكنا نذكر نموذجاً منها:
قال رسول (صلى الله عليه وآله): (بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا)[6].
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): كلوا ما يسقط من الخوان فإنه شفاء من كل داء بإذن الله عز وجل لمن أراد أن يستشفى به)[7].
وعن منصور بن العباس، عن الحسن بن معاوية بن وهب، عن أبيه قال: (أكلنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فلما رفع الخوان لقط ما وقع منه فأكله ثم قال لنا : إنه ينفي الفقر ويكثر الولد)[8].
وعن عمرو بن جميع قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من وجد كسرة فأكلها كانت له حسنة، ومن وجدها في قذر فغسلها ثم رفعها كانت له سبعون حسنة)[9].
وعن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عائشة فرأى كسرة كاد أن يطأها فأخذها فأكلها ثم قال: يا حميراء أكرمي جوار نعم الله عز وجل عليك، فإنها لم تنفر من قوم فكادت تعود إليهم)[10].
عن محمد بن الوليد الكرماني قال: (أكلت بين يدي أبي جعفر الثاني (عليه السلام) حتى إذا فرغت ورفع الخوان ذهب الغلام يرفع ما وقع من فتات الطعام فقال له: ما كان في الصحراء فدعه ولو فخذ شاة وما كان في البيت فتتبعه والقطه)[11].
وروي أن الناس في زمن النبي دانيال نتيجة دعائه (عليه السلام) عليهم، لعدم احترامهم للخبز وإلقائهم إياه تحت الأرجل - أصيبوا بالقحط حتى وصل بهم الأمر إلى أن يأكل بعضهم الآخر[12].
روي عن الإمام الحسين (عليه السلام): (أنه دخل المستراح فوجد لقمة ملقاة فدفعها إلى غلام له وقال يا غلام ذكرني بهذه اللقمة إذا خرجت، فأكلها الغلام، فلما خرج الحسين بن علي (عليهما السلام) قال يا غلام اللقمة! قال: أكلتها يا مولاي قال أنت حر لوجه الله، فقال رجل اعتقته؟ قال: نعم سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول من وجد لقمة ملقاة فمسح منها أو غسل ما عليها ثم أكلها لم يستقر في جوفه إلا أعتقه ألله من النار)[13]. ومن هذا القبيل لبس الملابس الفاخرة المعدة لحفظ الحرمة والكرامة في مكان يجعلها في معرض الضياع، كما تقدم ذكر ذلك في حديث سابق عن الإمام الصادق (عليه السلام).
الثاني: صرف المال فيما يضر البدن من المأكل والمشرب، مثل الأكل بعد الشبع فإنه مضر، بخلاف صرف المال في نفع البدن وصلاحه فإنه ليس إسرافاً، روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (... ليس فيما أصلح البدن إسراف…)[14].
الثالث: صرف المال في المحرمات شرعاً مثل شراء الخمر، وآلات القمار، واستئجار الفاحشة والمغنية، ودفع الرشوة للحاكم، وصرف المال في أمر يجر إلى الظلم، وأمثال ذلك، وفي مثل هذه الموارد توجد معصيتان: الأولى حرمة أصل العمل والأخرى هي الإسراف وصرف المال فيها[15].
[1] كنز العمال: ج9، ص325.
[2] الكافي: ج3، ص22.
[3] وسائل الشيعة: ج1، ص481.
[4] سورة الأعراف: آية31.
[5] المستدرك: ج16، ص287.
[6] الكافي: ج5، ص73.
[7] الكافي: ج6، ص300.
[8] الكافي: ج6، ص300.
[9] المصدر السابق.
[10] الكافي: ج6، ص300.
[11] وسائل الشيعة: ج24، ص376.
[12] وستأتي الرواية المتعلقة بذلك في آخر الكتاب.
[13] وسائل الشيعة: ج1، ص361.
[14] الكافي: ج4، ص54.
[15] الذنوب الكبيرة: ج2، ص110.