الإسراف يختلف باختلاف الموارد

 يجب أن يعلم أن الإسراف يختلف باعتبار الأشخاص من حيث الشأن والشرف والصحة والمرض والفتوة والشيخوخة، ومن حيث الغنى والفقر وزيادة العلاقات وقلّتها، ذلك أنه قد لا يكون إسرافاً صرف المبلغ الفلاني لشراء ملابس بالنسبة لشخص صاحب مقام وشخصية وعلاقات في المجتمع، بينما يكون إسرافاً بالنسبة لشخص آخر.

روى الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (رُبَّ فقير هو أسرف من الغني، إن الغني ينفق مما أوتي، والفقير ينفق من غير ما أوتي)[1].

  بناء على ذلك فإن أكثر التكلّف في الوسائل الحياتية والمعيشية - والمبتلى به أكثر الناس - من دون ملاحظة الشأن الاجتماعي للفرد ومستوى دخله المعيشـي والتورط غالباً بالقروض والهموم، إن أكثر هذا التكلف هو إسراف، وسببه أن كل واحد ينظر لمن أعلى منه ويريد أن يصبح مثله لا أقل منه، وبالتالي يتورط بالإسراف، ويكون دائماً في الشدة، والصعوبة والانزعاج، وعدم الرضا، والهم، في حين أنه لو نظر لمن هو دونه - حسب منهج الشرع - في الأمور الدنيوية، وقنع بما عنده ولم يطمع بالمزيد لم يُبتَلَ أبداً بالإسراف والقلق والاضطراب، على ذلك فإن أكثر حالات الإحباط والانكسار تنبع من الإسراف، بحيث لو أن الشخص عمل بقرار الشارع، وحكّم الفطرة والعقل السليم، وترك هذا الذنب الكبير، وفي جميع حالاته راعى الاقتصاد  والاعتدال، وكانت القناعة هي دليله، لنال بذلك سعادة الدنيا والآخرة.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يذوق المرء من حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: الفقه في الدين، والصبر على المصائب، وحسن التدبير في المعاش)[2]، والأخير هو ضد الإسراف فحسن التدبير في المعاش ينفي الإسراف.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر)[3]. لأنه لا ينفق المال إلا في مكانه المناسب من غير زيادة  فسيفضل لديه على هذا الأساس مال يكفيه في باقي حوائجه، وفي هذا الحديث الشـريف إشارة إلى قاعدة مهمة نشير إليها بشكل مختصر وهي أن الله تعالى قد كفل لكل إنسان في الحياة رزقه وهو أمر أشارت إليه الكثير من الآيات والروايات، ولكن الإنسان في بعض الأحيان بسوء تصرفه يقل رزقه ويضيق حاله فتراه مهموماً مكدوراً حزيناً كئيباً ولو التفت إلى خطئه وأنه السبب في سوء حاله لأصلح شأنه ورجع  إلى اليسر بعد الإعسار، ولهذه القاعدة مصاديق كثير، فمن يتسبب في قلة ماله إما مرتكب للذنوب التي توجب قلة المال، أو متكاسل عن العمل الذي يؤدي به إلى الحصول على الرزق إذ أن الله تعالى أبى إلا أن تجري الأمور بأسبابها وكذلك من الموارد التي هي أمثلة لهذه القاعدة هو المسرف فالمسرف يتسبب بسوء تصـرفه إلى الافتقار فلولا إنفاقه للمال الذي عنده بشكل غير صحيح لما افتقر ولكان ما قدره الله تعالى له من المال بقدر حاجته الفعلية، ولذا جاء في هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر). 

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) انه قال: (وأما المنجيات فخوف الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة العدل في الرضا والسخط)[4]. فالقصد سلوك شـخصي ليس له علاقة بوجود المال وعدمه بل هو نابع من دين الشخص فلا يتغير بحسب حالة الشخص المادية.

 وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (ومن قنع بالمقسوم استراح من الهم والكد والتعب)[5]. فالحديث يبين أن القناعة تنفي تعب القلب في التفكير بالحصول على ما لا يقدر على تحصيله، فلو قنع استراح أولاً من الهم من التفكير بذلك وثانياً استراح من الكد والعمل الزائد لتحصيل ما لا يقدر عليه فيجهد نفسه ويتعبها في غير طاعة الله. وهذا هو حال أكثر الناس في الوقت الحاضر للأسف.

وضمناً يجب أن نشير إلى الملاحظة التالية: إن قولنا بأن صرف مبلغ كذا من المال هو إسراف بالنسبة للفقير وليس إسرافاً بالنسبة للغني، قد يدعو هذا القول للاشتباه وتخيل أنه لا مانع للغني من صرف أي مبلغ وفي أي طريق، فيجوز له صرف المال في الملذات والأهواء، بتخيل أنه ثري فذلك لا يعتبر إسرافاً منه.

فهذا ليس صحيحاً بل الصحيح أن حكمه أشد، وتكليفه أكبر من الفقير، وذلك:

أولاً: إن صرف المال فيما زاد على حاجته من المسكن، واللباس، والفرش، واللوازم الحياتية، والمعيشة اليومية، وفيما زاد على ما يليق بشأنه في تلك الأمور حرام عليه، كما هو حرام على الفقير.

وثانياً: إن ما زاد على نفقاته اللازمة والمناسبة لشأنه لا يحق له خزنه، بل يجب إخراج الخمس منه وصرفه في موارده المعينة، كما يجب إخراج زكاته إذا كان موردا لتعلق الزكاة، وإذا كان لديه أرحام وأقرباء فقراء فإنه يجب عليه مساعدتهم بنحو تحفظ به صلة الرحم، مثلا إذا كان رحمه الفقير بحاجة إلى رأسمال وجب عليه دفعه إليه، وإذا كان هذا الفقير مدينا وجب عليه أن يؤدي دينه، وإذا كان مريضا وجب عليه توفير الدواء له ووسائل سلامته، بل يجب عليه إغاثة كل مسلم مضطر ومحتاج يستطيع مساعدته، وإذا لم يعمل بهذه التكاليف كان ممن قال فيهم الله تعالى:( الذينَ يكنزونَ الذهبَ والفضة ولا ينفقونها في سبيلِ اللهِ فبشّرهُم بعذابٍ أليم، يومَ يُحمى عليها في نارِ ِجَهنّم فتُكوى بِها جِباهُهُم وجُنوبُهُم وظُهورُهُم هذا ما كنزتُم لأنفُسِكُم فذوقوا ما كُنتُم تكنِزُون)[6])[7].

  وكما إن الإسراف يختلف باختلاف الأشخاص فكذلك يختلف باختلاف الأزمان، فربما لا يكون صرف مبلغ معين في معيشة شخص إسرافاً في الأحوال الطبيعية، ولكن صرف نفس ذلك المبلغ في سنة القحط والفقر العام يكون إسرافاً لنفس ذلك الشخص، إذ يستطيع أن يعيش بأقل من ذلك المقدار ويعطي ما زاد للآخرين.

  وهكذا بالنسبة إلى اللباس، فقد ورد فيمن اعترض على الإمام الصادق (عليه السلام) قائلا : يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت النبوة وكان أبوك وكان، فما هذه الثياب المزينة عليك؟.

فقال (عليه السلام) في جواب هؤلاء المعترضين: (أخبرك أن رسول الله كان في زمان مقفر جدب، فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها)[8] وفي رواية أخرى قال(عليه السلام): (كان علي (عليه السلام) في زمان يستقيم له ما لبس فيه، ولو لبست مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس: هذا مراء)[9].

  وفي رواية أخرى أنه (عليه السلام) اجتذب يد المُعترض فجرّها إليه، ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظاً، فقال: هذا لبسته لنفسي غليظا، وما رأيته للناس.

 


[1] الكافي: ج4، ص55.

[2] سفينة البحار: ج8، ص529.

[3] الكافي: ج4، ص53.

[4] سفينة البحار: ج1، ص34.

[5] المصدر السابق: ج2، ص452.

[6] سورة التوبة: آية 34- 35.

[7] الذنوب الكبيرة: ج2، ص103- 108.

[8] وسائل الشيعة: ج5، ص19.

[9] المصدر السابق.