جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضمن حديث المناهي: (ومن بنى بنياناً رياءً وسمعة حمله يوم القيامة من الأرض السابعة وهو نار تشتعل ثم يطوق في عنقه ويلقى في النار فلا يحبسه شيء منها دون قعرها إلا أن يتوب.
قيل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيف يبني رياء وسمعة؟
قال (صلى الله عليه وآله) يبني فضلاً على ما يكفيه استطالة منه على جيرانه، ومباهاة لإخوانه)[1]. فنجد هنا أن الفاعل قد أنفق ماله في أزيد مما يحتاجه فهو أمر محرم وأضاف إلى هذا الفعل المحرم فعلاً آخر وهو كون الدافع إلى هذا الفعل المحرم هو التباهي والتفاضل على إخوانه وهو محرم آخر فلذا زاد فعله قبحاً وعقوبة.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن الله إذا أراد بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التدبير وجنبه سوء التدبير والإسراف)[2]. فما يقابل الإسراف هو الاقتصاد وهو من نعم الله تعالى على عباده الذين يريد بهم الخير لما فيه من حسن العاقبة بعكس مقابله فانه يورث سوء العاقبة والعذاب الأليم.
كتب الإمام علي (عليه السلام) كتاباً لزياد فيِ ذم الإسراف جاء فيه: (فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غدا، وامسك عن المال بقدر ضرورتك، وقدِّم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين، وتطمع، وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزيٌّ بما أسلف وقادم على ما قدّم)[3]. وهنا يبين أمير المؤمنين (عليه السلام) مجموعة أمور مهمة تساعد على الإقلاع عن الإسراف بشكل عملي أو علمي، فالجانب العلمي الذي يمنع الإسراف هو أن يمتنع عن إنفاق المال في غير محله أو زائداً عن حاجته عن طريق الاحتياط في الإنفاق والتحسب لما سيأتي من الأيام إذ قد تمر عليه ظروف تحتاج إلى المال فيما يأتي من عمره فلابد له من الاحتياط في الإنفاق، هذا درس عملي يمنع من الإسراف وقد يكون المراد بـ (غداً) إشارة إلى دار الآخرة فيكون تمهيداً لما سيأتي من الفقرات في قوله (عليه السلام): وقدم الفضل ليوم حاجتك... على ما سيأتي شرحه.
وقد أعطى الأمير (عليه السلام) درساً في علاج هذا المرض من أحسن الدروس إذ حوّل هذه الصفة الذميمة إلى صفة حسنة بأن حوّل اهتمام الشخص المبذر من التمادي في لذاته وشهواته المالية إلى التفكير في آخرته، فلو لم يستطع عدم الإنفاق فلينفق المال فيما ينفع به يوم القيامة وذلك بأن يتصدق به على المستحقين فيكون هذا الإنفاق مذخوراً له ولا يعد إتلافاً للمال وتضييعاً له في الدنيا.
وكم من حكمة ومعنى عميق في هذا الدرس الأخلاقي الكبير من أمير المؤمنين (عليه السلام) كيف لا وهو معلم الإسلام الثاني بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (إن مع الإسراف قلة البركة)[4]. والإمام (عليه السلام) يشير إلى قانون طبيعي في الحياة فالمسرف لا تبقى في أمواله البركة لأنه ينفق ماله بغير حكمة وفي غير احتياج .
عن سليمان بن صالح قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): أدنى ما يجيئ من حد الإسراف؟ فقال: (إبذالَك[5] ثوب صونك، وإهراقك فضل إنائك، وأكلك التمر ورميك النوى ههنا وههنا)[6]. وهنا الإمام ينبه إلى أن الإسراف لا يفرق فيه القليل والكثير فأدنى ما يحصل من إتلاف المال فهو إسراف أيضاً.
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (أربعة لا يستجاب لهم، أحدهم كان له مال فأفسده فيقول: يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل: ألم آمرك بالاقتصاد)[7]. وهذا أيضاً من الأمور الواضحة فمن يفرط بالنعمة لا يحصل عليها بعد ذلك وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ولقلّما أدبرت نعمة فأقبلت.
وقال (عليه السلام): (حَلّوا أنفسكم بالعفاف، وتجنبوا التبذير والإسراف)[8]. فالتبذير والإسراف - بعكس ما يتوقع الشخص - لا يزين الإنسان وإنما زينة الإنسان بالعفاف وهذا من بديع الكلام فهنا يعبر الإمام على أن المسـرف غير مقدر في الحالين لا في حال اليُسر والإنفاق لان إنفاقه ليس على موازين الإنفاق الصحيحة، ولا في حال الفقر لان فقره جاء نتيجة تصرفاته المتهورة فهو غير مرحوم إذ العذر الذي يصدر من الإنسان بسوء اختياره لا يعد عذراً عند العرف.
وقال (عليه السلام): (ذر السرف، فان المسرف لا يحمد جوده، ولا يرحم فقره)[9].
وقال (عليه السلام): (سبب الفقر الإسراف)[10]، وهذا من أوضح الأمور التي لا تحتاج إلى بيان.
وقال (عليه السلام): (من أشرف الشـرف، الكف عن التبذير والسرف)[11] ، وهذا الكلام على روعته البيانية يراد منه أن يغير أفكار الناس التي تنظم إلى الإنفاق غير المدروس على أنه محل افتخار وإن الاقتصاد بخل فالإمام يريد أن يصحح المفاهيم ويبين أن الاقتصاد شرف.
وقال (عليه السلام): (ويح المسرف، ما أبعده عن صلاح نفسه، واستدراك أمره!)[12].
ومما سبق يتضح أن المسـرف لا يصلح نفسه لا في الدنيا لفرض أنه ينفق ماله بما لا نفع فيه، ولا في الآخرة لأن عمله غير مأجور عليه بل مأثوم فيه.
[1] بحار الأنوار: ج73، ص149.
[2] مستدرك الوسائل: ج15، ص266.
[3] نهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام): صبحي الصالح، ص 377.
[4] الكافي: ج4، ص55.
[5] ابتذال الثوب: لبسه في أوقات الشغل والخدمة.
[6] الكافي: ج4، ص56.
[7] المصدر السابق.
[8] مستدرك الوسائل: ج15، ص266.
[9] مستدرك الوسائل: ج15، ص266.
[10] المصدر السابق.
[11] مستدرك الوسائل: ج15، ص266.
[12] المصدر السابق.