نأتي إلى ذكر مقومات تلك المنزلة السامية والهيبة الإلهية التي تتمثل بالملكات القدسية والخصال الروحانية التي اجتمعت في شخصه الكريم (عليه السلام) من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من معالي الفضيلة وعناصر العظمة التي تحلّىٰ بها أهل هذا البيت(عليهم السلام)، حيث كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قمّة في الفضائل والأخلاق، وتميّز بها عن بقيّة أهل زمانه، نذكر من أخلاقه ما يلي:
عبادته (عليه السلام):
لا شك أن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) هم قدوة الأمة في العبادة، والإخلاص لله عزّ وجل، وواضح أن من أبرز العناصر المقوّمة للإمامة هو عنصر الإخلاص لله سبحانه، والتعلق به دون سواه، وإن من أبرز معالم هذا الإخلاص والعبودية لله في حياة البشرية، هو الانقطاع في العبادة والتسليم لإمر الله سبحانه، وقد ورد كثير من الروايات التي وصلتنا والتي تتحدث عن عبادة الإمام زين العابدين (عليه السلام) وكيفية تعلقه بالله عزّ وجلّ، ومنها:
روي عنه (عليه السلام): (أنه إذا توضّأ اصفرَّ لونُه، فيقال له: ما هذا الذي يَعتَادُك عند الوضوء؟ فيقول (عليه السلام): أتَدْرُونَ بَين يَدَيْ مَن أُريدُ أنْ أقِفَ)[1].
ومن كلماته (عليه السلام): (إنَّ قوماً عبدوا اللهَ رَهبةً فَتِلْكَ عبادة العبيد، وآخرين عَبدُوه رغبة فَتِلْكَ عبادة التُجَّار، وقوماً عبدوا الله شُكراً فَتِلْكَ عِبادَةُ الأحرار)[2].
وقال رجل لسعيد بن المُسيَّب: ما رأيت رجلاً أورع من فلان - وسمَّى رجلاً -، فقال له سعيد المسيَّب: أما رأيت عليَّ بن الحسين (عليه السلام)؟ فقال: لا، فقال المسيَّب: (ما رأيتُ أورع منه)[3].
وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبا حازم يقول: (ما رأيت هاشميّاً أفضل من علي بن الحسين (عليه السلام))[4].
وقال طاووس: (رأيت عليَّ بن الحسين (عليه السلام) ساجداً في الحجر، فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيِّب، لأسمعنَّ ما يقول، فأصغيتُ إليه فسمعته (عليه السلام) يقول: (عُبَيدُك بِفِنائك، مِسكينُك بِفِنائك، سَائِلُك بِفِنائك، فَقيرُك بِفِنائك)، قال طاووس: فوالله ما دعوتُ بِهِنَّ في كرب إلا كُشِف عَنِّي، وكان (عليه السلام) يُصلِّي في كلِّ يوم وليلة ألف ركعة، فإذا أصبح سَقط مغشياً عليه، وكانت الريح تُميلُه كالسنبلة..)[5].
فلسفة الدعاء لدى الإمام السجاد (عليه السلام):
الدعاء في الإسلام ركن ركين، وكهف حصين، وواحة أمان وطمأنينة يلجأ إليه الإنسان المسلم عندما تداهمه الخطوب، وتنتابه العلل، وتتلبّد أمامه الأجواء فيحسّ بالاختناق في كل لحظة، ويفتش عن المتنفس، ويبحث عن(الإنعاش)، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال: (وَإِذا مَسَّ الإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً..)[6]، والدعاء شعور فطري يشعر به الإنسان لضعفه نحو خالقه ومربيه فيطلب منه ما يحتاج إليه، فهو اليد الغيبية التي تمتد في اللحظة المناسبة لإنقاذ الإنسان من محنته.
كما أن الأحاديث الشريفة التي هي تعبير عن روح القرآن أكدت على أن للدعاء أهدافاً وحكماً كثيرة لو عرفها الإنسان لاكتشف كنزاً عظيماً..اكتشف علاجاً لمشاكل عويصة يعيشها في حياته.. وحلاًّ للمصاعب التي تعترضه.. واكتشف بالتالي شفاءً لما في صدره من الآلام والأدران.
وفي طليعة هذه الأحاديث ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض)[7].
إن المؤمن يواجه في حياته مخاطر كثيرة، وذلك بسبب ضعف نفسه، لأن الإنسان خلق من ضعف وركب في ضعف (وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً)[8]، فحياته محدودة، وعمره محدود، وعلمه محدود، وأخيراً تحركه في الدنيا محدود، والسؤال هو كيف يخرج الإنسان من هذا الضعف الذي يحيط به؟!
إنه يخرج بقوة خارجية، وبإمداد غيبي هو الاتصال بالله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه، كما أن الدعاء ـ كما في الحديث ـ عماد الدين، فللدين مظهر وجوهر، مظهر الدين هو الصلاة والصيام، والحج.. إلى آخر العبادات.. ولكن ما هو جوهر الدين وعماده؟ إنه الدعاء، لأن جوهر الدين هو اتصال الإنسان بالله، وعروجه إليه، فإن الله سبحانه وتعالى تحدّث إلى الإنسان عبر القرآن الكريم، ولكن كيف يتحدث الإنسان مع الله سبحانه؟ إن مناجاة الإنسان مع ربّه دعاء، سواء كان في الصلاة أو غيرها، وصاغ الإمام السجاد (عليه السلام) أدعية عالية المضامين بوحي من القرآن الحكيم تعتبر بحق دائرة معارف عليا لجميع المعارف الإلهية، ابتداءً من معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى، وطرق التوسل إليه، ومروراً بصفات الرسل وانتهاءً بتكريس الصفات الرسالية عند الإنسان المسلم، لنتأمل المقطوعة التالية في التربية الأخلاقية:
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، واحْجُبْنِي عَنِ السَّرَفِ والِازْدِيَادِ، وقَوِّمْنِي بِالْبَذْلِ والِاقْتِصَادِ، وعَلِّمْنِي حُسْنَ التَّقْدِيرِ، واقْبِضْنِي بِلُطْفِكَ عَنِ التَّبْذِيرِ، وأَجْرِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَلَالِ أَرْزَاقِي، ووَجِّه فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ إِنْفَاقِي، وازْوِ عَنِّي مِنَ الْمَالِ مَا يُحْدِثُ لِي مَخِيلَةً أَوْ تَأَدِّياً إِلَى بَغْيٍ أَوْ مَا أَتَعَقَّبُ مِنْه طُغْيَاناً، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ صُحْبَةَ الْفُقَرَاءِ، وأَعِنِّي عَلَى صُحْبَتِهِمْ بِحُسْنِ الصَّبْرِ، ومَا زَوَيْتَ عَنِّي مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ فَاذْخَرْه لِي فِي خَزَائِنِكَ الْبَاقِيَةِ، واجْعَلْ مَا خَوَّلْتَنِي مِنْ حُطَامِهَا، وعَجَّلْتَ لِي مِنْ مَتَاعِهَا بُلْغَةً إِلَى جِوَارِكَ ووُصْلَةً إِلَى قُرْبِكَ وذَرِيعَةً إِلَى جَنَّتِكَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وأَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ)[9].
إن التأمل في فقرات هذا الدعاء الرائع يرفع الإنسان إلى أعلى مراتب الشعور الإنساني، حيث يشعر المرء بحب الصحبة للفقراء.. والابتعاد عن أخلاق الطغاة.. وبالذات الطغيان الناشئ من الغنى والثروة، كما يُعلِّمنا الإمام (عليه السلام) كيف ينبغي أن نصرف المال بدون تبذير، ولكن مع الإنفاق في وجوه البر والإحسان.. كما يذكّر الإنسان بأن الهدف الأقصى هو بلوغ الآخرة، عند جوار الرب الكريم.. وليس التلذذ بالمتاع الزائل والملذات الفانية في هذه الحياة.
وما أجمل أن نختم الحديث عن أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) بمقطوعة رائعة من أدعيته التي تعلّم المؤمنين ـ كيف ينبغي الانقطاع إلى الله؟ والاستغناء عن الخلق والذلّة لهم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُومٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْه، ومِنْ مَعْرُوفٍ أُسْدِيَ إِلَيَّ فَلَمْ أَشْكُرْه، ومِنْ مُسِيءٍ اعْتَذَرَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْه، ومِنْ ذِي فَاقَةٍ سَأَلَنِي فَلَمْ أُوثِرْه، ومِنْ حَقِّ ذِي حَقٍّ لَزِمَنِي لِمُؤْمِنٍ فَلَمْ أُوَفِّرْه، ومِنْ عَيْبِ مُؤْمِنٍ ظَهَرَ لِي فَلَمْ أَسْتُرْه، ومِنْ كُلِّ إِثْمٍ عَرَضَ لِي فَلَمْ أَهْجُرْه، أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ - يَا إِلَهِي- مِنْهُنَّ ومِنْ نَظَائِرِهِنَّ اعْتِذَارَ نَدَامَةٍ يَكُونُ وَاعِظاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ أَشْبَاهِهِنَّ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، واجْعَلْ نَدَامَتِي عَلَى مَا وَقَعْتُ فِيه مِنَ الزَّلَّاتِ، وعَزْمِي عَلَى تَرْكِ مَا يَعْرِضُ لِي مِنَ السَّيِّئَاتِ، تَوْبَةً تُوجِبُ لِي مَحَبَّتَكَ، يَا مُحِبَّ التَّوَّابِينَ)[10].
[1] كشف الغمة للإربلي: ج2، ص74.
[2] كشف الغمة للإربلي: ج2، ص287.
[3] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج46، ص144.
[4] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج4، ص98.
[5] كشف الغمة للإربلي: ج2، ص293.
[6] سورة يونس: آية 12.
[7] عيون أخبار الرضا(عليه السلام) للشيخ الصدوق:ج2،ص40.
[8] سورة النساء: آية 28.
[9] الصحيفة السجادية الإمام زين العابدين(عليه السلام): ص138.
[10] الصحيفة السجادية الإمام زين العابدين(عليه السلام): ص166.