الظروف التي أحاطت بالنهضة لا تناسب انتصاره عسكرياً [1]
الثاني: أن الظروف التي أحاطت بنهضته المباركة، وخروجه من مكة إلى العراق، كانت لا تناسب انتصاره عسكرياً. ولا أقل من أنها كانت تقتضي مزيداً من الاحتياط والتأني، ولو من أجل العائلة المخدرة.
كما يشهد بذلك إجماع آراء من نصحه، فإنهم ذكروا لتوجيه آرائهم أموراً لا تخفى على كثير من الناس، فضلاً عنه (صلوات الله عليه).
فإقدامه على تلك النهضة، وما استتبعته من تضحيات جسام ومآسٍ قاسية، لابد أن يكون لهدف آخر غير الانتصار العسكري.
ويبدو مدى وضوح الخطر عليه في خروجه للعراق، وقوة تصميمه (عليه السلام) عليه مع ذلك، من محاورة ابن عباس معه، وهو الذي سبق منه أنه قال: ((ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين بن علي يقتل بالطف))[2].
حيث قال ابن عباس للإمام الحسين (عليه السلام): ((إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع)). فقال (صلوات الله عليه): ((قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى)). فحذره ابن عباس، وأبدى وجه تخوفه عليه من مسيره في حديث طويل، فقال الإمام الحسين (عليه السلام)له: ((وإني أستخير الله، وأنظر ما يكون)).
فلما كان من العشي أو من الغد أتاه ابن عباس، فقال: ((يا ابن عم. إني أتصبر ولا أصبر. إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال. إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم أقم بهذا البلد، فإنك سيد أهل الحجاز. فإن كان أهل العراق يريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم.
فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن، فإن بها حصوناً وشعاباً. وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس، وترسل وتبث دعاتك. فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية)).
فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه): ((يا ابن عم إني لأعلم أنك ناصح مشفق. ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير)). فقال له ابن عباس: ((فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك، فوالله إني الخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه)).
ثم قال: ((لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها. وهو يوم [ اليوم. ظ] لا ينظر إليه أحد معك. والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك، حتى يجتمع عليّ وعليك الناس أطعتني، لفعلت ذلك )[3].
وإنما كان (صلوات الله عليه ) يبرر خروجه بدعوة أهل الكوفة له، وكثرة كتبهم إليه - بنحو قد يوحي بأن هدفه الانتصار العسكري - لأن عامّة الناس، وكثير من خاصتهم، لا يستوعبون أن هدفه (عليه السلام) من الخروج هو الإصحار والإعلان عن عدم شرعية السلطة في موقف يخرجها ويستثيرها، وإن ترتب على ذلك التضحية بنفسه الشريفة وبمن معه، وانتهاك حرمتهم وحرمة عائلته الكريمة، ليتجلى مدى ظلامة دين الإسلام العظيم بظلامة رعاته ورموزه المقدسة، وباستيلاء أولئك المجرمين على السلطة فيه، وحكمهم باسمه.
[1] السيد محمد سعيد الحكيم، فاجعة الطف، الطبعة السابعة، 1442هـ-2021م، القسم الأول: ص40.
[2] المستدرك على الصحيحين ج:3 ص:179 كتاب معرفة الصحابة: أول فضائل أبي عبد الله الحسين بن علي الشهيد (رضي الله عنهما). وتقدمت بقية مصادره عند الكلام في توقع الناس للفاجعة قبل وقوعها من المقدمة.
[3] تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ۲۸۷-۲۸۸ أحداث سنة ستين من الهجرة: ذكر الخبر عن مسير الحسين (عليه السلام) من مكة متوجهاً إلى الكوفة وما كان من أمره في مسيره، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ٤ ص:38-39 أحداث سنة ستين من الهجرة: ذكر مسير الحسين إلى الكوفة. البداية والنهاية ج: ٨ ص:173 أحداث سنة ستين من الهجرة: صفة مخرج الحسين إلى العراق. الأخبار الطوال ص: ٢٤٤ خروج الحسين بن علي بن أبي طالب إلى الكوفة. الفتوح لابن أعثم ج: ٥ ص: ٧٢-٧٣ ابتداء أخبار الحسين بن علي (عليهما السلام). وغيرها من المصادر.