لقد كانت الحياة العلمية في عصر الإمام (عليه السلام) شُبْه معدومة، حيث اقتَضَت مصلحة الدولة الأموية آنذاك إقصاء الوعي الثقافي في الأمة، وإركاسها في منحدر سَحيق من الجهل، لأن بَلْوَرَة الوعي العام، وإشاعة العلم بين المسلمين، يُهدِّدَان مصالحها، وملكها القائم على الجهل، فقد كان الناس في عصر الإمام (عليه السلام) لا يعرفون كيف يُصلُّون، ولا كيف يَحجُّون، يقول الزهري: دخلنا على أنس بن مالك بدمشق، وهو وحده يبكي، قلت: ما يبكيك؟! قال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وقد ضُيِّعت[1].
وبعد عصر أنَس بقليل نجد الحسن البصري يقول: (لو خرج عليكم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما عرفوا منكم إلا قِبْلتكم)[2].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: (لو أن رَجُلين من أوائل هذه الأمة خطو بمصحفيهما في بعض الأودية، لأتَيَا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه)[3]
وبعد هذا، فإن من الطبيعي أن يُعتَبر من حفظ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض الأحاديث أو بعض الأحكام، أعلم الناس وأعظمهم، في وقته وعصره، فكيف بمن مثل الإمام الذي كان مستودعا لعلم محمد وآل محمد (عليهم السلام).
هذا عرض موجز عن واقع سياسة التجهيل، التي كانت تَتَعرَّض لها الأمة بأسرها في ذلك الوقت.
تأسيس مدرسته الفكرية (عليه السلام):
إنّ حالة الجمود الفكريّ والركود العلميّ التي أصابت الاُمّة الإسلامية بسبب سيطرة بني أميّة على الحكم كانت تستدعي حركة فكرية اجتهادية تفتح الآفاق الذهنية للمسلمين كي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير، وهذا ما قام به الإمام زين العابدين (عليه السلام) فانبرى إلى تأسيس مدرسة علمية وإيجاد حركة فكرية بما بدأه من حلقات البحث والدرس في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) وبما كان يثيره في خطبه في صلوات الجُمَع اُسبوعيّاً.
وأخذ الإمام (عليه السلام) يحدّث بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وعقائد وأخلاق، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين(عليهم السلام) ويمرّن النابهين منهم على التفقّه والاستنباط.
فرفع (عليه السلام) مناراً للعلم، ودعا شباب الأمة إلى التحرر من قيود الجهل، حيث قام (عليه السلام) بتأسيس مدرسته الفكرية الإسلامية، من أجْلِ هذا الهدف، فقد كان المسجد النبوي الشريف، ودار الإمام (عليه السلام) يشهدان نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمام (عليه السلام) خلال تلك الفترة طَُّلاب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها وأغراضها، لا في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحدهما، وإنما في الساحة الإسلامية بأكملها.
علوم المدرسة:
لقد فتح الإمام (عليه السلام) آفاقاً مشرقة من العلم لم يعرفها الناس من ذي قبل، حيث عرض لعلوم الشريعة الإسلامية من رواية الأحاديث الشريفة الصحيحة عن جَدِّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عبر سلسلة نقيَّة، لا يرقى إلى رواتها أدنى شك، وتبدأ بسيدي شباب أهل الجنة (عليه السلام)، وتمرُّ بالإمام علي (عليه السلام)، وتنتهي برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فالوحي الإلهي المقدس.
وإلى جانب عرضه للحديث فقد قام الإمام (عليه السلام)، وعبر أربع وثلاثين سنة، وهي مدة إمامته (عليه السلام)، بعرض الفقه، والتفسير، وعلم الكلام، والفلسفة، وغيرها من العلوم.