بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد.. فقد كثر الحديث عن نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي انتهت بفاجعة الطف عرضاً وتقييماً، وتفجعاً وافتخاراً، وغير ذلك من شؤون هذه الملحمة الدينية الكبرى.
ولعله لم تحظ واقعة في الإسلام - بل في العالم - بمثل ما حظيت به هذه الواقعة من الاهتمام والتقييم في أحاديث وكتابات بلغ كثير منها كتباً كاملة، بل مجلدات.
وذلك قد يوحي بأن الحديث عنها بعد ذلك لا يزيد شيئاً، بل هو تكرار لأفكار سابقة، واجترار المفاهيم مطروحة.
ولكن الذي يبدو لنا أن الأمر ليس كذلك، وأن بعض جوانب هذه النهضة المباركة لم يأخذ حظه المناسب من البحث والتقييم.
بل حيث كانت هذه النهضة المقدسة - حسب عقيدتنا كمسلمين شيعة إمامية اثني عشرية نستمد تعاليمنا من أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) - بأمر من الله تعالى وعهد معهود منه سبحانه، فقد تكون لها من الأهداف والثمرات في علم الله عز وجل ما لم يدركه الناس بعد.
وربما يظهر بمرور الزمن وفي الوقت المناسب من فوائدها وثمراتها ما هو مغفول عنه الآن. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء)[1] .
وها نحن نضع بين يدي القارئ الكريم كتاب (فاجعة الطف) الذي بحثنا فيه جوانب مهمة من نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) لم تطرق من قبل، أو لم تأخذ حظها المناسب من البحث والتقييم.
وقد اخترنا للكتاب هذا العنوان من أجل أن أهمية هذه النهضة المباركة وموقعها المتميز من بين الأحداث، في خلودها، وترتب الثمرات الجليلة عليها، وما أحدثته من هزة في المجتمع الإسلامي، وتحول في نظرته للسلطة، كل ذلك إنما كان بلحاظ وجهها الدامي، وجانبها المفجع، وظلامتها الصارخة. ولذا أكّد أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على هذا الجانب بوجه ملفت للنظر.
عرض موجز المحتويات الكتاب
نعم العنوان المذكور قد يوحي في بدو النظر بأن الكتاب يتضمن أحداث الفاجعة، وسرد مفرداتها، على غرار المقاتل الكثيرة التي ألفت في هذا المجال، مع أن الكتاب أبعد ما يكون عن ذلك. ومن هنا ألحقنا بالعنوان المذكور المفردات التالية:
أبعادها. ثمراتها. توقيتها.
لنشير بذلك إلى الجوانب المهمة التي عني بها الكتاب. وقد خصصنا كلاً منها بمقصد يستوفي الكلام فيه.
وبعد أن انتهى الكتاب بهذا الحجم غير المتوقع، وبالمادة الغزيرة التي تضمنها، فالظاهر أن الإشارة لمضمونه بهذا الاختزال لا تكفي في إعطاء صورة إجمالية للقارئ عن محتواه. لذا كان من المناسب عرض محتوى المقاصد الثلاثة بإيجاز.
فالمقصد الأول الذي هو في أبعاد الفاجعة يتضمن بيان المفردات المأساوية والمثيرة التي تجمعت في الفاجعة، وجعلتها في قمة المآسي الدينية والإنسانية وبالحجم المناسب لخلودها، ولما ترتب عليها من آثار جليلة.
وتأكيد ذلك بما ظهر من ردود الفعل السريعة لها مع التعرض لهولها ...
أولاً: في المجتمع الإسلامي، حيث أججت عواطفه بنحو أظهرت غضبه على السلطة وبغضه لها.
وثانياً: في السلطة التي قارفت الجريمة نفسها، حيث شعرت بالخيبة والخسران، واضطرت للتراجع عن عنفوانها فيما يخص الحدث والتنصل من الجريمة في محاولة يائسة.
والمقصد الثاني الذي هو في ثمرات الفاجعة ومكاسبها، قد ذكرنا فيه أن المكاسب المذكورة على قسمين:
القسم الأول: المكاسب الدينية. ولها الموقع الأهم في الحدث، والأوفى بحثاً وتقييماً في هذا الكتاب. وهي ذات جانبين:
۱- مكاسب الإسلام بكيانه العام.
وحيث كانت نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في ضمن سلسلة جهود أهل البيت (عليهم السلام) في رعاية الإسلام والحفاظ على الدين وإيضاح معالمه، فقد ألزمنا ذلك التعرض...
أولاً : لخطر التحريف الذي تعرض له دين الإسلام نتيجة انحراف السلطة، وخروجها عن أهل البيت (صلوات الله عليهم). وقد أفضنا في خطوات السلطة المتلاحقة، ومشروعها في التعتيم على الحقائق والتحكم في الدين، وفي حجم الخطر لو ترك الأمر لها، ولم يكبح جماحها.
وثانياً: الجهود أهل البيت (صلوات الله عليهم) في كبح جماح الانحراف والتحريف.
ولبيان المراحل التي قطعها أهل البيت (عليهم السلام) في سبيل ذلك استعرضنا جهود أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) والخاصة من أصحابه (رضوان الله عليهم) في كشف الحقائق، والتركيز عليها، والإنكار على الانحراف في السلطة، وعلى تحكمها في الدين وتحريفه وما جرى مجرى ذلك.
ثم تأكيده هو (عليه السلام) حينما استولى على السلطة، وتأكيدهم معه، على حقه وحق أهل البيت، واهتمامهم بإحياء دعوة التشيع التي غرسها النبي (صلى الله عليه وآله).
وكانت نتيجة ذلك أن تبنى هذه الدعوة الحقة جماعة من ذوي المقام الرفيع في الدين، والأثر المحمود في الإسلام، ومن ذوي التصميم والإصرار، واقتنعوا بها كعقيدة محددة المعالم، مدعومة بالأدلة، مناسبة للفطرة، وبالدعوة لها، ومحاولة التبليغ بها وتعميمها في المجتمع الإسلامي، وبالإنكار على انحراف السلطة وتحريفها للدين، وتعرية الظالمين.
ثم استعرضنا جهود السلطة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) في الوقوف بوجه هذه الدعوة، والقضاء على حملتها، والمضي في الانحراف والتحريف، وإسكات أصوات الإنكار عليه وعلى السلطة بالترغيب والترهيب، وإماتة الوازع الديني والضمير الإنساني في الأمة.
كل ذلك من أجل انفراد السلطة في الساحة، وتنفيذ مشروعها في استغلال قدرات الإسلام المادية والمعنوية، والتحكم بالدين لصالحها وخدمة أهدافها.
ونبهنا إلى تفاقم الأمر ببيعة معاوية بولاية العهد من بعده ليزيد، وتحويل الدولة الإسلامية إلى دولة قيصرية أموية سفيانية ذات أهداف جاهلية. وإلى أن جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) السابقة أصبحت بسبب ذلك في خطر حقيقي.
وهنا جاء دور الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ليقف في وجه السلطة، وليعلن الإنكار عليها، وعدم شرعيتها. ويفجر الموقف بفاجعة الطف الدامية التي هزّت ضمير المسلمين، وبغّضت السلطة للناس وأسقطت شرعيتها عندهم.
وكان المكسب المهم للدين في ذلك فصله عن السلطة غير المعصومة، وتحرره من أن تتحكم فيه، ورجوع المسلمين لواقعهم في الاعتراف بانحصار المرجع في الدين بالكتاب المجيد وسنة النبي (صلى الله عليه وآله)، واتفاقهم على جملة من معالم الدين التي تحفظ وحدتهم وتذكرهم بمشتركاتهم.
2- مكاسب التشيع بخصوصيته...
تارة: من حيثية الاستدلال والبرهان، وقوة الحجة بسبب الفاجعة.
وأُخرى: في الجانب العاطفي، حيث فاز التشيع بشرف التضحية في أعظم ملحمة دينية تأجج العواطف وتثير المشاعر.
وثالثة: في الإعلام، وبيان حقيقة التشيع والدعوة له، ونشر ثقافته الأصيلة المناسبة للفطرة في مختلف جهات المعرفة.
القسم الثاني: في العبر التي تستخلص من الفاجعة من أجل أن ينتفع بها ذوو الرشد. وقد اقتصرنا منها على أمرين:
أولهما: سلامة آلية التحرك والعمل، والحفاظ فيها على المبادئ الدينية والإنسانية السامية.
ثانيهما: ظهور واقع الناس، ومدى استجابتهم لدعوة الحق، والثبات عليها، والوقوف عند تعاليمها، مما يكشف عن تعذر الإصلاح التام وإقامة حكم إسلامي بنحو كامل. وأنه يتعين الاكتفاء بالإصلاح النسبي حسب المقدور، من دون أن ينافي ذلك شمولية الإسلام في نفسه، وكمال تشريعه الرفيع.
أما المقصد الثالث فقد تحدثنا فيه عن توقيت النهضة المباركة التي انتهت بالفاجعة، والظروف المناسبة التي هيأت للإمام الحسين (صلوات الله عليه) القيام بها دون بقية الأئمة ممن سبقه ولحقه، مع أن وظيفتهم (صلوات الله عليهم) بأجمعهم هي رعاية الدين والجهاد في سبيل صلاحه وحمايته.
وقد أوضحنا في المقصد المذكور عدم سنوح الفرصة المناسبة لتفجير الموقف إلا في عهد الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وفي ذلك المنعطف التاريخي من مسيرة الإسلام خاصة، دون ما قبله وما بعده.
وقد استعرضنا من أجل ذلك ...
أولاً: موقف أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) وظرفه الحرج الذي ألزمه بالمسالمة والسكوت.
وثانياً: موقف الإمام الحسن (صلوات الله عليه) الذي اضطر فيه المهادنة معاوية، وثمرات ذلك لصالح الإسلام عموماً، ودعوة التشيع خاصة.
وثالثاً: موقف الأئمة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم). حيث كفتهم فاجعة الطف مؤنة السعي لإسقاط شرعية السلطة، وتحرير الدين منها، واستغنوا بالفاجعة المذكورة عن مواجهة السلطة والاحتكاك بها.
وكيف أنهم (عليهم السلام) استثمروا جهود الأئمة الأولين (صلوات الله عليهم) - وفي قمتها تلك الفاجعة - لصالح الدين، وتفرغوا لبناء الكيان الشيعي بمميزاته الحالية - في العقيدة والبنية والممارسات - بالنحو الذي ضمن له الاستمرار والبقاء، والتوسع والانتشار، وفرض احترامه على الآخرين.
كما قدمنا هذا الكتاب بمقدمة أو ضحنا فيها أن التخطيط لفاجعة الطف كان إلهياً، وقد علم به الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مسبقاً، وأقدم على التضحية في سبيل الله تعالى عالماً بالنتائج. وأنه بذلك تتجلى رفعة مقامه، وعظمة موقفه، وفناؤه في ذات الله عز وجل.
أما الخاتمة التي ختمنا بها هذا الكتاب فهي تتضمن:
أولاً: بيان أن لجهود أهل البيت (صلوات الله عليهم) - وفي قمتها فاجعة الطف - في كبح جماح الانحراف وإيضاح معالم الدين الفضل على جميع الأديان السماوية في التنبيه على رفعتها وسلامتها مما نسبته لها يد التحريف. بل لها الفضل في استقامة مسار الفكر الإنساني، وإيضاح المعالم العامة لمنهج التفكير السليم.
وثانياً: بيان كثير مما يتعلق بإحياء فاجعة الطف ومناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) في أفراحهم وأحزانهم وجميع المناسبات الدينية الشريفة. ونأمل أن تتم للقارئ بهذا العرض الموجز صورة إجمالية عما تضمنه هذا الكتاب.
ونسأل الله عز وجل أن يجعله مورد نفع لطالبي الحقيقة والباحثين عنها.
ومنه سبحانه نستمد التوفيق والتسديد.
إنه ولي الأمور. وهو حسبنا ونعم الوكيل.