جهود العائلة الثاكلة في كشف الحقيقة وتهييج العواطف

جهود العائلة الثاكلة في كشف الحقيقة وتهييج العواطف[1]

أما العائلة الثاكلة - التي لم يكن فيها من الرجال سوى الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) الذي أنهكه المرض - فقد رأت الأرضية الصالحة لبيان الحقيقة، والجوّ المناسب لذلك، فاستثمرت الظلامة لتهييج العواطف.

وقد تيسر لها في هذه المدة الطويلة أن تكشف الحقيقة، وتعلن عن شرف النهضة، ورفعة مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وعن فداحة المصاب، وعظم الجريمة، بنحو ينبه الغافلين، ويهيج العواطف، ويصدع القلوب ويترك أعمق الأثر في النفوس.

كان ذلك منها في كربلاء قبيل قتل الإمام الحسين(عليه السلام)[2]، وبعد قتله [3]، وفي الكوفة على ملأ من الناس[4]، وفي مجلس ابن زياد [5]، وفي الشام[6]، وفي مجلس يزيد [7].

وإن من أشد ذلك خطبة العقيلة زينب (عليها السلام) بنت أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، في مجلس يزيد حينما تبجح بقتله للحسين (عليه السلام)، وأنشد الأبيات المتقدمة، حيث إنها لم تقتصر على بيان ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وفداحة المصاب، بل زادت على ذلك بتبكيت يزيد وتكفيره، والتأكيد على هوانه على الله تعالى، وعلى خسته وخسة أصوله وعراقتهم في الكفر، ووعده بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة. والتأكيد على أن العاقبة لأهل البيت (صلوات الله عليهم).

كل ذلك ببيان فريد ومنطق رصين يبهر العقول. كأنها تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين، وأمها الصديقة الزهراء (صلوات الله عليهما)[8].

كما خطب الإمام زين العابدين (عليه السلام) خطبة طويلة أبكى بها العيون وأوجل فيها القلوب، انتسب فيها لآبائه الكرام (صلوات الله عليهم) وأشاد برفيع مقامهم وبمواقفهم وجهادهم، وعرج على مصاب أبيه (عليه السلام)، فقال:

((أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في .... الهواء)).

فضجّ الناس بالبكاء. وخشي يزيد من الفتنة، فاضطر إلى قطع خطبته بأن طلب من المؤذن أن يؤذن. فلما انتهى المؤذن إلى قوله: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) التفت (عليه السلام) إلى يزيد، وقال: ((يا يزيد، محمد هذا جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت، وإن قلت إنه جدي فلم قتلت عترته؟!))[9] .

 


[1] السيد محمد سعيد الحكيم، فاجعة الطف، الطبعة السابعة، 1442هـ-2021م، القسم الأول: ص125.

[2] تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٤٥ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة. الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ۷۸ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة: ذكر مقتل الحسين(رضي الله عنه). البداية والنهاية ج: 8 ص: ٢٠٤ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة: صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة الشأن. الإرشاد ج: ۲ ص: ۱۱۲. وغيرها من المصادر.

وقد قال الطبري في حديث رواه: ((وعتب على عبد الله بن عمار بعد ذلك مشهده قتل الحسين، فقال عبد الله بن عمار: إن لي عند بني هاشم ليداً. قلنا له: وما يدك عندهم؟ قال: حملت على حسين بالرمح، فانتهيت إليه، فوالله لو شئت لطعنته، ثم انصرفت عنه غير بعيد، وقلت: ما أصنع بأن أتولى قتله؟!. يقتله غيري. قال: فشد عليه رجالة ممن عن يمينه وشماله فحمل على من عن يمينه حتى ابذعروا، وعلى من عن شماله حتى ابذعروا - وعليه قميص له من خز، وهو معتم - . قال: فوالله ما رأيت مكسوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جاشاً ولا أمضى جناناً منه، ولا أجرأ مقدماً. والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله. إن كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب. قال: فوالله إنه لكذلك، إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته... وهي تقول: ليت السماء تطابقت على الأرض. وقد دنا عمر بن سعد من حسين، فقالت: يا عمر بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! قال: فكأني أنظر إلى دموع عمر وهي تسيل على خديه ولحيته. قال: وصرف بوجهه عنها)). وذكر حديث زينب (عليها السلام) مع ابن سعد باختلاف يسير البلاذري في أنساب الأشراف ج: ٣ ص: ٤٠٩.

[3] مشير الأحزان ص: ٥٩. مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج: ۳ ص: ٢٦٠. اللهوف في قتلى الطفوف ص: 78 – 79.

ومن ذلك ما رواه الطبري عن قرة بن قيس التميمي قال: ((نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن. قال: فاعترضتهن على فرس، فما رأيت منظراً من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك. والله لهن أحسن من مهى يبرين. قال: فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعاً وهي تقول: يا محمداه. يا محمداه. صلى عليك ملائكة السماء. هذا الحسين بالعرا، مرمل بالدما، مقطع الأعضا. يا محمداه وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا قال: فأبكت والله كل عدو وصديق)). تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٤٨-٣٤٩ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة. وذكر حديث زينب (عليها السلام) بتفاوت بسير البلاذري في أنساب الأشراف ج: ٣ ص: ٤١١.

[4] تقدم التعرض لبعض ذلك قريباً عند ذكر موقف أهل الكوفة حين استقبلوا العائلة الشاكلة، وراجع ملحق رقم (۳).

[5] فقد نقل ابن نما عن حميد بن مسلم أنه قال: ((لما أُدخل رهط الحسين (عليه السلام) على عبيد الله بن زياد - لعنهما الله - أذن للناس إذناً عاماً. وجيء بالرأس فوضع بين يديه. وكانت زينب بنت على (عليهما السلام) قد لبست أردأ ثيابها وهي متنكرة، فسأل عبيد الله عنها ثلاث مرات، وهي لا تتكلم. قيل له: إنها زينب بنت علي بن أبي طالب، فاقبل عليها، وقال: الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وأكذب أحدوثتكم. فقالت: الحمد الذي أكرمنا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وطهرنا تطهيراً، [لا كما تقول أنت. تاريخ الطبري] إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا. فقال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم. وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج. هبلتك أمك يا ابن مرجانة.

فغضب ابن زياد، [وكأنه هم بها. اللهوف، مقتل الحسين (عليه السلام)] وقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، ولا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال ابن زياد: لقد شفاني الله من طغاتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت، ثم قالت: ((لقد قتلت كهلي، [وأبرت أهلي. الطبري] وقطعت فرعي، واجتثئت أصلي. فإن تشفيت بهذا فقد اشتفيت)). مثير الأحزان ص: ٧٠.

راجع الأمالي للصدوق ص: ۲۲۹، والإرشاد ج: ۲ ص: 115، وإعلام الورى بأعلام الهدى ج: 1 ص: ٤٧١-٤٧٢، واللهوف في قتلى الطفوف ص: ٩٣-٩٤. وتجده مع اختلاف يسير في تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٤٩ - ٣٥٠ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، والكامل في التاريخ ج: ٤ ص: 81 - 82 في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة: ذكر مقتل الحسين (عليه السلام)، والبداية والنهاية ج: ۸ ص: ۲۱۰ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة: صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة الشأن، والفتوح لابن أعثم ج: ٥ ص: ١٤٢ ذكر دخول القوم على عبيد الله بن زياد، ومقتل الحسين للخوارزمي ج: ٢ ص: ٤٢. وغيرها من المصادر.

[6] قال الخوارزمي: ((ثم أُتي بهم حتى أقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي، وإذا شيخ أقبل حتى دنا منهم قال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح العباد من رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له علي بن الحسين: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: هل قرأت هذه الآية (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال الشيخ: قرأتها. قال: فنحن القربي يا شيخ. وهل قرأت هذه الآية (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟ قال: نعم. قال: فنحن أهل البيت الذي خصصنا بآية الطهارة. فبقي الشيخ ساكتاً ساعة نادماً على ما تكلم به. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إني أتوب إليك من بغض هؤلاء. وإني أبرأ إليك من عدو محمد وآل محمد من الجن والإنس)).

مقتل الحسين للخوارزمي ج: ٢ ص: ٦١-٦٢. وقد ذكر القصة باختلاف يسير في اللهوف في قتلى الطفوف ص: 102 - 103. وفي تفسير الطبري ج: ٢٥ ص: ٣٣، وتفسير الثعلبي ج: ٨ ص: ۳۱۱ وتفسير ابن كثير ج: ٤ ص: ۱۲۱، وروح المعاني للألوسي ج: ٢٥ ص: ٣١، والدر المنثور ج: ٦ ص: 7. وغيرها من المصادر.

[7] قال ابن الجوزي: ((وكان علي بن الحسين والنساء موثقين في الحبال، فناداه علي: يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رانا موثقين في الحبال، عرايا على أقتاب الجمال؟! فلم يبق في القوم إلا من بكى)). تذكرة الخواص ص: ١٦٢، واللفظ له. الأنوار النعمانية ج: ٣ ص: ٢٥١ نور في بعض أحوال واقعة الطفوف. اللهوف في قتلى الطفوف ص: ١٠١.

وروى الخوارزمي كلاماً له (عليه السلام) مع يزيد أشد من هذا لا يسعنا ذكره لطوله. مقتل الحسين للخوارزمي ج: ٢ ص: ٦٣.

[8] راجع ملحق رقم (٤). ويأتي لها معه كلام آخر في ص: 265 - 266.

[9] راجع ملحق رقم (٥).