المقدمة

ونحن نقرأ حياة الإمام السجاد (عليه السلام)، نستحظر آيات الذِّكر التي ترسم صورة عباد الله الصالحين، وعندما نتدبر في تلك الآيات، يوسوس الشيطان في أنفسنا، هل إنها تحدِّثنا عن بشر أمثالنا أم عن ملائكة خُلقوا من نور قدرة الله ؟، أم أنها روائع أدبية ؟، حاشا لله تعالى أن تكون في كلماته ذرة من المبالغة، ونحن نعرف الحقيقة تماماً حينما نتلوا قصص الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وندرك أن تمثيل تلك الصورة المشرقة التي تعكسها الآيات عن حياة عباد الله الأبرار أنه حقيقة واقعة، ونَفهم أننا مدعوُّون لاتِّباعهم فيها..  وبهذا بالذات تكمن حكمة الولاية حيث أمرنا الله أن نبتغي الوسيلة إليه سبحانه عبر ولاية أوليائه، وأن نطلب منه الهدى كما هدى الذين أنعم عليهم، وأن نركع مع الراكعين، ونكون مع الصادقين، ونرجوا الالتحاق بركب الصالحين.

إن ولاية أولياء الله تجعلنا نتلمس سيرة حياتهم النيِّرة، وحين نتعرف عن كثب عليهم نتحصّن ضد وساوس الشيطان الذي يوحي إلى أوليائه أن تمثيل صفات الصالحين التي في القرآن مستحيل، أو أنها إنما ذُكرت تشجيعاً، أو هي روائع أدبية بليغة، إن هذا الوسواس أعظم مكائد الشيطان في إغواء البشر عن معارج الكمال الإلهي.. ولا يقضي عليه شيء مثل دراسة حياة الأنبياء والأئمة والصدِّيقين باعتبارهم بشراً أمثالنا أنعم الله تعالى عليهم ورفعهم إليه مقاماً محموداً.

إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول  (صلى الله عليه وآله)، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة كاملة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الأمة، فيرتقي بهم إلى حيث الكمال المنشود بقوله  (صلى الله عليه وآله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[1]، ثم بدأ شيئا فشيئا تخفت ناره، وينطفي وهجه وتتضاءل طاقته بعد وفاة الرسول  (صلى الله عليه وآله)، فأخذ الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعملون على توعية الأمة وتحريك مشاعرها باتجاه إيجاد وإحياء الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول  (صلى الله عليه وآله) وثورته الفكرية المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والأمة جمعاء.

وتبلورت حياة الأئمّة (عليهم السلام) في استمرارهم على نهج الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله)،
وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.

وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.

ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي تلمس قبسات وشذرات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.

والإمام زين العابدين (عليه السلام)، الذي نحن في صدد سيرته العطرة، هو قدوة الزاهدين، وسيد المتقين، وإمام المؤمنين، شيمته تشهد له أنه من سلالة رسول الله  (صلى الله عليه وآله)، وسمته يثبت مقام قربه من الله زلفى، ونفثاته تُسجّل كثرة صلاته وتهجده، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها، درّت له أخلاق التقوى فتفوقها، وأشرقت لدربه أنوار التأييد فاهتدى بها، وأَلِفته أوراد العبادة فأنس بصحبتها، وحالفته وظائف الطاعة فتحلى بحليتها، طالما اتخذ الليل مطيّة ركبها لقطع طريق الآخرة، وظَمأَ الهواجر دليلاً استرشد به في مفازة المسافرة، وله الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة، وثبت بالآثار المتواترة، وشهد له أنه من ملوك الآخرة.

 


[1] مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص8.