لقد كان أهل البيت (عليهم السلام) لا يأنسون ولا يلتذون بشيء مثل مناجاة ربهم ودعائه وقد ملئت صحف التاريخ بصحائف من نور تحكي تلك العلقة الربانية بينهم وبين خالقهم الذي عرفوه فأحبوه فثارت بهم العواطف فتركوا النوم وانشغلوا بعبادة ربهم وتلذذوا بمناجاته ودعائه فقد كان أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) من أشهر العابدين حتى كانت الغشية التي تأخذه في الليل من أبرز سماته التي حكاها أصحابه، وكذلك ابنه زين العابدين (عليه السلام) فقد طرز كتب الأدعية بمناجاته وادعيته التي عرفت بعد ذلك بزبور آل محمد، ووقف الحسين بين الأب والابن نفس الموقف ولم يكن غريبا عن نسق هذا البيت الطاهر فاشتهر عنه دعاؤه في عرفة الذي حيّر الألباب فصاحة وعلماً فقد انكب العلماء والعباد عليه على حد سواء يقرأونه ليزدادوا منه علماً أو قرباً إلى الله تعالى.
وحفلت الأدعية التي أُثِرت عن الإمام الحسين (عليه السلام) بالدروس التربوية الهادفة إلى بناء صُرُوح العقيدة، والإيمان بالله، وتنمية الخوف والرهبة من الله في أعماق نفوس الناس، لِتصدُّهُم عن الاعتداء، وتمنعهم عن الظلم والطغيان.
وقد كان اهتمام أهل البيت (عليهم السلام)بهذه الجهة اهتماماً بالغاً، ولم يُؤثَر عن أحد من خِيَارِ المسلمين من الأدعية مثل ما أُثِر عنهم (عليهم السلام).
وإِنَّها لَتُعَد من أروع الثروات الفكرية والأدبية في الإسلام، فقد حَوَت أصول الأخلاق، وقواعد السلوك والآداب، كما ألَمَّتَ بفلسفة التوحيد ومعالم السياسة العادلة وغير ذلك.
ونشير هنا إلى قسم من أدعيته (عليه السلام):
أولها: دعاؤه (عليه السلام) من وقاية الأعداء:
كان (عليه السلام) يدعو بهذا الدعاء مستجيراً بالله من شرور أعدائه، وهذا نَصُّه: (اللَّهُم يَا عدَّتي عِند شِدَّتي، وَيا غَوثي عِند كُربَتي، اِحرسْني بِعَينِكِ التي لا تَنَام، واكنفْني بِرُكنِكَ الذي لا يُرَام، وارحَمْني بقدرَتِك عَليَّ، فَلا أَهْلَكُ وأنتَ رَجَائي، اللَّهُمَّ إِنك أكبرُ وأجلُّ وأقدَرُ مَمَّا أخافُ وأحذَرُ، اللَّهُمَّ بك أَدرَأُ في نحره، وأستَعيذُ مِن شَره، إِنكَ عَلى كُلِّ شيءٍ قَديرٍ )[1].
ودعا بهذا الدعاء الشريف الإمام الصادق (عليه السلام) حينما أمر الطاغية المنصور بإحضاره مخفوراً لِيَنكل به، فأنقذَهُ الله من شَرِّه وفرَّجَ عنه، فَسُئل عن سبب ذلك فقال (عليه السلام) إِنه دَعا بدعاء جَدِّه الحُسين (عليه السلام)[2].
ثانيها: دعاؤه للاستسقاء:
كان (عليه السلام) يدعو بهذا الدعاء إذا خرج للاستسقاء: (اللَّهُمَّ اسقِنَا سُقيَا واسعة، وَادِعة عَامَّة، نَافِعة غَير ضَارَّة، تَعمُّ بِها حَاضِرنا وَبَادِينا، وتزيدُ بِها فِي رِزقِنَا وَشُكرِنا، اللَّهُمَّ اجعَلهُ رِزقَ إِيمَان، وَعَطَاءَ إِيمَان، إِنَّ عطاءك لَم يَكُن مَحظوراً، اللَّهُمَّ أَنزِلْ عَلينا فِي أرضِنَا سَكَنَهَا، وَأنبِتْ فِيها زَيتَهَا وَمَرْعَاهَا)[3].
ثالثها: دعاؤه (عليه السلام) يوم عرفة:
وهو مِن أجَلِّ أدعية أهل البيت (عليهم السلام)، وأكثرها استيعاباً لألطاف الله ونِعَمه على عباده.
وقد روى هذا الدعاء الشريف بشر وبشير الأسديَّان حيث قالا: كنا مع الحسين بن علي (عليهما السلام) عشية عرفة، فخرج (عليه السلام) من فسطاطه مُتذلِّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هَوناً هَوناً، حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل، مستقبل البيت، ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين، وقال (عليه السلام): (الحَمدُ لله الذي ليس لِقضَائه دافع، ولا لِعَطائِه مَانِع، وَلا كَصُنعِه صَانِع، وَهو الجَوادُ الوَاسِع ......).
وأخذ (عليه السلام) يدعو الله وقد جَرَت دموع عينيه على سَحنات وَجهِه الشريف وهو يقول: (اللَّهُمَّ اجعَلني أخشَاكَ كأنِّي أرَاك، وأسعِدْني بِتَقواك، وَلا تُشْقِنِي بِمعصيتك، وخر لي في قضائك).
ثم رفع (عليه السلام) بصره إلى السماء وقال برفيع صوته: (يَا أسمَع السَّامِعين، يا أبصَر النَّاظِرين، ويَا أسرَع الحَاسِبين، ويَا أرحَم الرَّاحِمين، صَلِّ عَلى مُحمَّدٍ وآلِ محمد، السَّادة المَيامِين، وأسألُكَ اللَّهُمَّ حَاجَتي التي إِن أعْطَيتَنِيهَا لَم يَضرُّني مَا مَنَعتَني، وَإِن مَنَعتَنِيهَا لَم يَنفَعني مَا أعْطَيْتَني، أسألُكَ فَكَاكَ رَقَبَتي مِن النَّار، لا إِلَه إلا أنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ، لَكَ المُلكُ وَلَكَ الحَمدُ، وَأنتَ عَلى كُلِّ شيءٍ قَدير، يَا رَبِّ يَا رَبِّ).
وأثَّرَ هذا الدعاء تأثيراً عظيماً في نُفوس من كان مع الإمام (عليه السلام)، فاتَّجَهوا بقلوبهم وعواطفهم نَحوهُ يستمعون دعاءه (عليه السلام) وقد عَلَت أصواتُهم بالبكاء معه، وذُهِلوا عن الدعاء لأنفسهم في ذلك المكان الذي يُستَحَبُّ فِيه الدُعَاء.
يقول الرواة: إِنَّ الإمام (عليه السلام) استمَرَّ يَدعو حَتى غَربت الشمسُ، فَأفاضَ (عليه السلام)
إلى ( المُزْدَلِفَة)، وَفاضَ الناسُ مَعه[4].