كان الإمام (عليه السلام) أعلم أهل زمانه بعد أبيه وجده فقد تربى في بيت العلم الذي نزل به جبرائيل (عليه السلام) على روح النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وتداوله إمام بعد إمام إلى أن وصل إليه (عليه السلام)، وهنا نعرض لبعض الفقرات التي تبين سعة علمه ووراثته له من أبيه وجده (صلى الله عليه وآله).
أولاً: كلامه (عليه السلام) في توحيد الله عز وجل:
للإمام (عليه السلام) تراث علمي رائع، خاض في جملة منه مجموعة من البحوث الفلسفية والمسائل الكلامية التي مُنيت بالغموض والتعقيد، فأوضحها (عليه السلام)، وبيَّن وِجهة الإسلام فيها، منها:
في معنى (التَّوحِيد):
وعَرَّض الإمام الحسين (عليه السلام) في كثير من كلامه إلى توحيد الله، فَبيَّنَ حقيقته وجوهره، وفَنَّد شُبَه المُلحدين وأوهامهم، ونعرض فيما يلي لبعض ما أُثِر عنه:
أولاً: قال (عليه السلام):
(أيُّها النَّاس، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبِّهون الله بأنفسهم، يضاهون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، استخلص الوحدانية والجَبَروت، وأمضى المشيئة، والإرادة، والقدرة، والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كُفو له يعادِلُه، ولا ضِدّ له ينازعه، ولا سَمِيّ له يشابهه، ولا مثل له يشاركه، لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا ينزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كُنهَ عظمته، ولا يخطر على القلوب مَبلغ جبروته، لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق، إيقانا بالغيب لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، فذلك الله لا سَمِيّ له، سبحانه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير)[1].
فقد حذّر الإمام (عليه السلام) من تشبيه الخالق العظيم بعباده، أو بسائر الممكنات التي يلاحقها العدم، ويطاردها الفناء.
ثانياً:
يقول المؤرخون إن حَبْر الأمة عبد الله بن عباس كان يُحدِّث الناس في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقام إليه نافع الأزرق فقال له: تُفتي الناس في النملة والقَملة، صف لي إِلَهَك الذي تعبُد ؟
فأطرقَ إعظاما لقوله، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) جالساً فانبرى قائلاً: (إِليَّ يا بن الأزرق)؟
فقال نافع: لَستُ إِيَّاك أسأل.
فثار ابن عباس، وقال له: إنه من بيت النبوة، وهم وَرَثة العلم.
فأقبل نافع نحو الإمام (عليه السلام)، فقال (عليه السلام): (يا نافع، من وضع دينه على القياس لم يزل الدهرَ في التباس سائلاً ناكباً عن المنهاج، ظاعناً بالاعْوِجَاج، ضالاً عن السبيل، قائلاً غير الجميل.
أَصِفُ لك إلهي بما وصفَ به نفسه، وأعَرِّفُه بما عَرَّف به نفسه، لا يُدركُ بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريبٌ غير مُلتَصِق، بعيد غير منتقص يوحد ولا يبغض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المُتَعَال)[2].
فحارَ الأزرق، ولم يُطِق جواباً، فقد مَلَكَته الحيرة، وسدَّ عليه الإمام (عليه السلام) كل نافذة ينفذ منها، وبُهِر جميع من سمعوا مقالة الإمام (عليه السلام)، وراحوا يُرَدِّدُون كلام ابن عباس: إِنَّ الحُسين (عليه السلام) مِن بيت النبوَّة، وَهُم وَرَثَة العلم[3].
في معنى (الصَّمَد):
كتب إليه (عليه السلام) جماعة يسألونه عن معنى الصمد في قوله تعالى: (اللهُ الْصَّمَدُ).
فكتب (عليه السلام) لهم بعد البسملة: (أما بعد: فلا تخوضوا في القرآن، ولا تُجادلوا فيه، ولا تتكلموا فيه بِغَير عِلم، فقد سمعت جَدِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (مَن قال في القرآن بغير عِلمٍ فَلْيَتَبَوَّأُ مقعدُهُ من النار)، وإن الله سبحانه قد فَسَّر الصمد فقال: ( اللهُ أَحَدُ * اللهُ الْصَّمَدُ)، ثم فَسَّرهُ فقال: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد).
)لَمْ يَلِدْ): لم يخرج منه شيء كثيف، كالولد وسائر الأشياء الكثيفة، التي تخرج من المخلوقين.
ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البدوات كالسِّنَة والنوم والخطرة، والهم والحزن، والبهجة والضحك، والبكاء والخوف، والرجاء والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى عن أن يخرج منه شيء، وأن يتولَّدَ منه شيء كثيف أو لطيف.
( وَلَمْ يُولَدْ ): لم يتولد من شيء، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما يخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنار من الحجر، لا، لا بل هو الله الصمد الذي لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء، مبدع الأشياء وخالقها، ومنشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته، ويبقى ما خلق للبناء بعلمه، فذلكم اللهُ الصَّمد، الذي لم يلد ولم يولد، عالم الغيب والشهادة، الكبير المُتَعال، وَلم يَكُن لَهُ كُفوا أحد )[4].
ثانياً: مسائل الإمام الحسين (عليه السلام):
طرحت عدّة مسائل على الإمام الحسين (عليه السلام)، نذكرمنها:
المسألة الأولى:
دخل على الإمام الحسين (عليه السلام) رجل من العرب، فقال: يا بن رسول الله مسألة، قال (عليه السلام): (هات).
قال: كم بين الإيمان واليقين؟ قال (عليه السلام): (أربع أصابع).
قال: كيف؟ قال (عليه السلام): (الإيمان ما سمعناه واليقين ما رأيناه، وبين السمع والبصر أربع أصابع).
قال: فكم بين السماء والأرض؟ قال (عليه السلام): (دعوة مستجابة).
قال: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال (عليه السلام): (مسيرة يوم للشمس).
قال: فما عز المرء؟ قال (عليه السلام): (استغناؤه عن الناس).
قال: فما أقبح شيء؟ قال (عليه السلام): (الفسق في الشيخ قبيح، والحدة في السلطان قبيحة، والكذب في ذي الحسب قبيح، والبخل في ذي الغناء قبيح، والحرص في العالم قبيح).
قال: صدقت يا بن رسول الله، فأخبرني عن عدد الأئمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قال (عليه السلام): (إثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل ).
قال: فسمهم لي ؟ فأطرق الحسين (عليه السلام) ملياً، ثمّ رفع رأسه، فقال (عليه السلام): (نعم أخبرك يا أخا العرب، إنّ الإمام والخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والحسن وأنا وتسعة من ولدي، منهم علي أبني، وبعده محمّد ابنه، وبعده جعفر ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده محمّد ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده الخلف المهدي، هو التاسع من ولدي يقوم بالدين في آخر الزمان)[5].
المسألة الثانية:
كتب رجل من أهل الكوفة إلى الإمام الحسين(عليه السلام): يا سيّدي أخبرني بخير الدنيا والآخرة؟ فكتب (عليه السلام): (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّ من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكلّه الله إلى الناس، والسلام)[6].
المسألة الثالثة:
قال رجل للإمام (عليه السلام): أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية، فعظني بموعظة، فقال له: (افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت).
قال له الرجل هاتها يا أبا عبد الله ؟ قال (عليه السلام):
(الأولى: لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت)، فقال الرجل: ومن أين آكل إذن، وكل ما في الكون لله ومن عطائه؟
(الثانية: أخرج من أرض الله وأذنب ما شئت)، فقال الرجل: وهذه أعظم من الأولى، فأين أسكن وكل ما في الكون لله وحده؟
(الثالثة: أطلب موضعاً لا يراك اللهُ فيه وأذنب ما شئت)، فقال الرجل: وهل تخفى على الله خافية؟
(الرابعة: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت).
(الخامسة: إذا أراد مالك أن يدخلك النار فلا تدخلها وأذنب ما شئت)، فقال له الرجل: حسبي يا ابن رسول الله، لن يراني الله بعد اليوم حيث يكره[7].
[1] تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص244.
[2] روضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص34.
[3] دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج1، ص395.
[4] الوافي للفيض الكاشاني: ج1، ص367.
[5] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص179.
[6] مستدرك الوسائل حسين النوري الطبرسي: ج12، ص209.
[7] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج75، ص126.