وحان الرحيل

ليت شعري كيف تجرأ القوم على هدر دمك وقد تجسّدت فيك المحامدُ كلّها، فإن راموا طمس معالم الفضل والتقى والكرم والشهامة والإبى، فأنت المَنْهَلُ النحرير الذي غذّى الاُمّة من علومه المحمّديّة الأصيلة ومعاقل فكره الرفيعة، وفارس الليل الذي شهدت لنسكه وعبادته أسحار مدينة الرسول ولياليها، والجواد الذي ما ردّ سائلاً أبدا، والأبيّ الذي ما هادن على الحقّ أبداً، والشهم الذي ذاد عن حرمة الدين لمّا بغى القاسطون تدنيسها.

تاريخ الشهادة:

 7  صفر، عام 50 للهجرة، وقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة سبع وأربعين للهجرة.

مكان الشهادة : المدينة المنورة.

القاتل:  جعدة بنت الأشعث بن قيس، وقيل: جون بنت الأشعث، بأمر من معاوية.

وسيلة القتل:  السم الذي أرسله معاوية بعد أن كان قد ضمن لجعدة مبلغ مائة ألف درهم وأن يزوجها يزيد ابنه.

كيفية القتل:

دَعَت السياسة الرشيدة للإمام الحسن(عليه السلام)، ومكانته المُتَنَامية في الأمّة، معاوية إلى أن يشك في قدرته على مناوأته، واستئثاره بقيادة الأمّة، حيث إنه ما خطى خطوة تحرف قِيَمَ الحق، أو مصالح الأمّة، إلا وعارضه الإمام (عليه السلام) واتَّبعته الأمّة في ذلك.

ففشلت مساعي معاوية وخابت آماله، فدبَّر حيلة كانت ناجحة إلى أبعد الحدود، تلك هي الفتك بحياة الإمام (عليه السلام) عن طريق السُّم، كما هي عادته.

فبعث معاوية إلى عاهل الروم يطلب منه سمّاً فتَّاكاً، فقال ملك الروم: إنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا.

فراسله معاوية يقول: إن هذا الرجل هو ابن الذي خرج بأرض تهامة ـ يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ خرج يطلب ملك أبيك، وأنا أُريد أن أدس إليه السمَّ، فأُرِيح منه العباد والبلاد.

شهادة الإمام الحسن (عليه السلام):

بَعَث ملك الروم إلى معاوية بالسمِّ الفتاك، فَدَسَّه إلى الإمام(عليه السلام) عن طريق جعدة، تلك الزوجة التي تربت في بيت يبغض علياً وأهل بيته (عليهم السلام)، حيث اشترك أبوها في قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخوها في قتل الإمام الحسين (عليه السلام)
فيما بعد.

وفي ذلك النهار حيث كان قد مضى عدة أيام على سقيه السُّم، أتمَّ (عليه السلام) وصاياه التي أوصى بها إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، وعلم باقتراب أجله.

فكان (عليه السلام) يبتهل إلى الله تعالى قائلاً:  (اللَّهُمَّ إني أحتسب نفسي عندك، فإني لم أُصَب بمثلها)[1]، وكان يقول: (لقد حاقت شربته ـ أي معاوية، وبلغ أمنيته، والله ما وفيَ بما وعد، ولا صَدَق فيما قال)[2].

وكان (عليه السلام) حين التحق بالرفيق الأعلى، يتلو آياتٍ من الذكر الحيكم.

المدفن:  البقيع الغرقد في المدينة المنورة.

موقف عائشة من دفن الإمام الحسن(عليه السلام):

روى الشيخ الكليني، بسنده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:  لما احتضر الحسن بن علي (عليهما السلام) قال للحسين: يا أخي إني أوصيك بوصية فاحفظها، فإذا أنا مت فهيئني ثم وجّهني إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأحدث به عهداً، ثم اصرفني إلى أمي فاطمة (عليها السلام) ثم ردّني فادفنّي بالبقيع.

واعلم أنه سيصيبني من الحميراء ما يعلم الناس من صنيعها، وعداوتها لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وعداوتها لنا أهل البيت، فلما قبض الحسن (عليه السلام) وضع على سريره، فانطلقوا به إلى مصلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يصلي فيه على الجنائز، فصلّى على الحسن (عليه السلام) فلمّا أن صلّي عليه حمل فادخل المسجد، فلما أوقف على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلغ عائشة الخبر وقيل لها: إنهم قد أقبلوا بالحسن بن علي ليدفن مع رسول الله، فخرجت مبادرة على بغل بسرج ـ فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجاً ـ فوقفت وقالت: نحوا ابنكم عن بيتي، فإنه لا يدفن فيه شيء، ولا يهتك على رسول الله حجابه.

فقال لها الحسين بن علي (عليهما السلام): قديماً هتكت أنت و أبوك حجاب رسول الله، و أدخلت بيته من لا يحب رسول الله قربه، و إن الله سائلك عن ذلك يا عائشة، إن أخي أمرني أن أقربه من أبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليحدث به عهداً.

واعلمي أن أخي أعلم الناس بالله ورسوله، وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك على رسول الله ستره، لأن الله تبارك وتعالى يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ..)[3] وقد أدخلت أنت بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
الرجال بغير إذنه، وقد قال الله عزوجل:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ(..[4](، ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وصاحبه عند اذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) المعاول، وقال الله عزوجل:  (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)[5] ، ولعمري لقد أدخل أبوك وصاحبه على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقربهما منه الأذى، و ما رعيا من حقّه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إن الله حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياء، وتالله يا عائشة لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن (عليه السلام) عند أبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) جائزاً فيما بيننا وبين الله لعلمت أنه سيدفن، وإن رغم معطسك.

قال: ثم تكلّم محمد بن الحنفية وقال: يا عائشة يوماً على بغل، ويوماً على جمل، فما تملكين نفسك، ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم.

قال: فأقبلت عليه فقالت: يا ابن الحنفية هؤلاء الفواطم يتكلمون فما كلامك؟ فقال لها الحسين (عليه السلام):  وأنى تبعدين محمداً من الفواطم، فو الله لقد ولدته ثلاث فواطم: فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت زائدة بن الأصم ابن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر.

قال:  فقالت عائشة للحسين(عليه السلام):  نحوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون.

قال:  فمضى الحسين (عليه السلام) إلى قبر أمّه ثم أخرجه فدفنه بالبقيع[6].

وقبل أن يوارى الجثمان الطاهر للإمام الحسن (عليه السلام) دنا منه أخوه محمد بن الحنفية ونعاه قائلاً:  رحمك الله يا أبا محمد، فوالله لئن عزّت حياتك لقد هدّت وفاتك، ونعم الرّوح، روح عمّر به بدنك ونعم البدن، بدن ضمه كفنك، لم لا يكون كذلك وأنت سليل الهدى، وحليف أهل التقوى، ورابع أصحاب الكساء، غذتك كفّ الحق، وربيت في حجر الإسلام، وأرضعتك ثديا الإيمان، فطب حيّاً وميتاً، فعليك السلام ورحمة الله وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك ولا شاكّة في الخيار لك[7].

وحينما وضع الإمام الحسين (عليه السلام) جسد أخيه الحسن (عليه السلام) في لحده أنشأ يقول:

أأدهن رأسي أم تطيب محاسني           ورأسك معفور وأنت سليب

بكائي يطول والدموع غـزيرة            وأنت بعيد والمزار قريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه          ألا كلّ من تحت التراب غريب

فليس حريب من أصيب بـماله          ولكنّ من وارى أخاه حريب[8]

فسلام عليك يا أبا محمد يوم ولدت ويوم جاهدت وبلغت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً.

اَللّهُمَّ صَلِّ عَلَى الْحَسَنِ ابْنِ سَيِّدِ النَّبِيّينَ وَوَصِىِّ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ سَيِّدِ الْوَصِيّينَ، اَشْهَدُ اَنَّكَ يَا ابْنَ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ اَمينُ اللهِ وَابْنُ اَمينِهِ، عِشْتَ مَظْلُوماً وَمَضَيْتَ شَهيداً، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ الاْمامُ الزَّكِىُّ الْهادِى الْمَهْدِىُّ، اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ وَبَلِّغْ رُوحَهُ وَجَسَدَهُ عَنّى فى هذِهِ السّاعَةِ اَفْضَلَ التَّحِيَّةِ وَالسَّلامِ.

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين

وسلامٌ على عبـاده الذيـن اصطفى محمـد وآله الطاهرين

تمّ بحمد الله

 


[1] تاريخ مدينة دمشق ابن عساكر: ج13، ص285.

[2] الغدير للعلامة الأميني: ج11، ص9.

[3]سورة الأحزاب:آية 53.

[4] سورة الحجرات :آية1.

[5] سورة الحجرات:آية3.

[6] الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص303.

[7] تاريخ اليعقوبي: ج2، ص225.

[8] معارج الوصول الى معرفة فضل آل الرسول محمد الزرندي الحنفي:ص82.