تعتبر صفة الكرم والسخاء من أبرز الصفات التي تميّز بها الإمام الحسن (عليه السلام)، فكان المال عنده غاية يسعى من خلالها إلى كسوة عريان، أو إغاثة ملهوف، أو وفاء دين غريم، أو إشباع جوع جائع، إلى غير ذلك من الأغراض السامية والأهداف الإسلامية النبيلة.
ومن هنا عُرف (عليه السلام) بكريم أهل البيت، فقد قاسم الله أمواله ثلاث مرّات، نصف يدفعه في سبيل الله ونصف يبقيه له، بل وصل إلى أبعد من ذلك، فقد أخرج ماله كلّه مرّتين في سبيل الله ولم يُبقِ لنفسه شيئاً، فهو كجدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وهو سليل الأسرة التي قال فيها ربّنا سبحانه وتعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[1] وآية أُخرى تحكي لسان حالهم: (وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيرا ! إنما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا)[2].
هذا هو الأصل الكريم لإمامنا الحسن (عليه السلام) الزكي من الشجرة الطيّبة التي تؤتي أُكلها كل حين، فمن كريم طبعه (عليه السلام) أنّه لا ينتظر السائل حتّى يسأله، ويرى ذل المسألة في وجهه، بل يبادر إليه قبل المسألة فيعطيه.
شواهد كرمه (عليه السلام):
- روي أنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) خرج مع أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن جعفر (رضي الله عنه) حُجَّاجاً، فَجَاعوا وعطشوا في الطريق، فمرّوا بعجوز في خباء لها، فقالوا: (هلْ مِن شراب)؟ فقالت: نعم هذه شَاة احلبوها، واشربوا لبنها، ففعلوا ذلك، ثمّ قالوا لها: (هلْ مِن طَعَام)؟ فقالت: لا، إلاّ هذه الشاة، فليذبحها أحدكم حتَّى أُهيئ لكم شيئاً تأكلون، فقام إليها أحدهم فذبَحَها وكشطها، ثمّ هَيَّأت لهم طعاماً فأكلوا، فلمّا ارتحلوا قالوا لها : (نحن نَفَرٌ من قريش، نريد هذا الوجه، فإذَا رَجعنا سالمين فأَلِمِّي بنا فإنَّا صانعون إليكِ خيراً(، ثمّ ارتحلوا، وأقبل زوجُها، وأخبَرَتْه عن القوم والشاة، فغضب الرجل وقال: وَيْحكِ، تذبحين شاتي لأقوام لا تعرفينهم، ثمّ تقولين: نَفَرٌ من قريش.
ثمّ بعد مدَّة أَلجَأَتْهُم الحاجة إلى دخول المدينة فدخلاها، فمرَّت العجوز في بعض سِكَك المدينة، فإذا بالحسن (عليه السلام) على باب داره، فَسَلَّمَت عليه، فعرفها الإمام (عليه السلام)، وأمر أن يُشتَرَى لها ألف شاة، وتُعطَى ألف دينار.
وأرسل معها غلامه إلى أخيه الحسين (عليه السلام)، فقال: (بِكَمْ وصلك أخي الحسن)؟ فقالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر (عليه السلام) لها بمثل ذلك.
ثمّ بعثَ (عليه السلام) بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال: بكم وَصَلك الحسن والحسين (عليهما السلام)؟ فقالت: بألفي دينار وألفي شاة، فأمر لها عبد الله بن جعفر بمثل ذلك، فَرجِعَت العجوز إلى زوجها بذلك[3].
- قال علي بن الحسين (عليهما السلام): خرج الحسن يطوف بالكعبة فقام إليه رجل فقال: يا أبا محمد، إذهب معي في حاجتي إلى فلان، فترك الطواف وذهب معه، فلما ذهب خرج إليه رجل حاسد للرجل الذي ذهب معه، فقال: يا أبا محمد تركت الطّواف وذهبت مع فلان إلى حاجة؟ قال: فقال له الحسن: (وكيف لا أذهب معه ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من ذهب في حاجة أخيه المسلم فقضيت حاجته كتبت له حجّة وعمرة وإن لم تقض له كتبت له عمره فقد إكتسبت حجّةً وعمرة ورجعت إلى طوافي)[4].
- وقال ابن الصبّاغ: (الكرم والجود غريزة مغروسة فيه، واتصال صِلاته للمعتقين نهج ما زال يسلكه ويقتفيه)[5].
- روى ابن عساكر بإسناده عن شهاب بن عامر: (أنّ الحسن بن عليّ (عليه السلام) قاسم الله تعالى ماله مرّتين حتى تصدّق بفرد نعله)[6].
- وروي عن ابن سيرين: أنّ الحسن بن علي كان يجيز الرجل الواحد بمائة ألف[7].
- وروي عن سعيد بن عبد العزيز: أن الحسن بن علي بن أبي طالب، سمع إلى جنبه رجلاً يسأل أن يرزقه الله عشرة آلاف درهم فانصرف فبعث بها إليه[8].
- وروي عن الحسن بن علي أنه كان ماراً في بعض حيطان المدينة فرأى أسود بيده رغيف يأكل لقمة ويطعم الكلب لقمة إلى أن شاطره الرغيف، فقال له الحسن: (ما حملك على أن، شاطرته ولم تغابنه فيه بشيء؟) فقال: إستحت عيناي من عينيه أن أغابنه، فقال له: (غلامُ مَنْ أنت؟) قال: غلام أبان بن عثمان، فقال له: والحائط؟ قال: لأبان بن عثمان، فقال له الحسن: أقسمت عليك، لا برحت حتى أعود إليك فمرّ فاشترى الغلام والحائط وجاء إلى الغلام فقال :(يا غلام قد اشتريتك(، فقام قائماً، فقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي، قال: (وقد إشتريت الحائط، وأنت حرٌّ لوجه الله، والحائط هبة مني إليك(، قال: فقال الغلام: يا مولاي قد وهبتُ الحائط للذي وهبتني له[9].
- مَرَّ الإمام الحسن (عليه السلام) على جماعة من الفقراء، قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز، كانوا قد التقطوها من الطريق، وهم يأكلون منها، فدعوه لمشاركتهم في أكلها، فأجاب (عليه السلام) دعوتهم قائلاً: ( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المتكبِّرين) وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا والزاد على حاله ببركته ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم)[10].
- وورد عنه (عليه السلام) أنه كان جالساً في مكان، وعندما عزم على الانصراف دخل المكان فقير، فَحَيَّاه الإمام (عليه السلام) ولاطَفَه، ثم قال: إنَّك جلستَ على حِين قيامٍ مِنَّا، أفتأذن لي بالانصراف؟ فأجاب الرجل: نعم يا ابن رسول الله.
- روي أنّه جاء أعرابي يوماً سائلاً الإمام (عليه السلام)، فقال (عليه السلام):(أعطُوه ما في الخَزَانة)، فَوُجِد فيها عشرون ألف دينار، فدفعها (عليه السلام) إلى الأعرابي، فقال الأعرابي: يا مولاي، ألا تركتني أبوحُ بحاجتي، وأنشر مِدحَتي.
فأنشأ الإمام (عليه السلام) يقول:
نَحنُ أُناسٌ نَوالُنا خضـل يــرتع فيه الرجـاء والأمــــل
تَجودُ قبل السؤال أنفسـنا خـوفاً على ماء وجه مَن يَسَلُ
لو علم البحرُ فَضلَ نائلنا لغاصَ مِن بــعد فيضِهِ خَجِلُ[11]
- أتاه رَجُل يَطلب حاجَة وهو يَستَحيي مِن الحاضرين أن يفصح عنها، فقال له الإمام (عليه السلام): (اكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا)، فكتب الرجل حاجته ورفعها، فضاعفها له الإمام مرّتين، وأعطاه في تواضع كبير، فقال له بعض الشاهدين ما كان أعظم بركة الرقعة عليه، يا بن رسول الله!
فقال (عليه السلام): (بركتها إلينا أعظم حين جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمت أنّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمَّا مَن أعطيته بعد مسألة فإنّما أعطيته بما بذل لك من وجهه وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً، يميل بين اليأس والرجاء ليعلم بما يرجع من حاجته أبكآبة ردّ، أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد، وقلبه خائف يخفق، فإن قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه، فإنّ ذلك أعظم ممّا ناله من معروفك)[12].
هكذا هو الخُلُق الحسن الذي ينبغي على المؤمن أن ينهجه في تعامله مع الناس، حتى يكون قدوة صالحةً يُقتَدَى به.
من هذه القصص ـ وغيرها الكثير ـ يتّضح لنا كيفية تعامل الإمام الحسن وأهل البيت (عليه السلام) مع المال، فهم بتوكّلهم على الله حقّ التوكّل، يعطوا عطاء من لا يخاف الفقر، لأنّ الشيطان عندما يرى المؤمن يريد العطاء يوسوس له ويظهرله قيوداً كثيرةً حتّى لا يبذل المال، يقول تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )[13].
[1] سورة الحشر: آية 9.
[2] سورة الإنسان: آية 8 -9.
[3] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج43، ص348.
[4] شعب الإيمان أحمد بن الحسن البيهقي: ج6، ص115.
[5] الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ: ج2، ص707.
[6] تأريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج13، ص244.
[7] تأريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج13، ص244.
[8] تأريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج13، ص244.
[9] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج13، ص246.
[10] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب:ج3،ص187.
[11] مناقب آل ابي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص182.
[12] بحار الأنوار العلامة المجلسي: ج43، 341.
[13] سورة البقرة: آية 268.