وصيتها ووفاتها (عليها السلام)

لما مرضت  فاطمة (عليها السلام)  مرضها الذي ماتت فيه، أوصت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)
أن يكتم أمرها ويُخفي خبرها ولا يُعلم أحداً بمرضها ففعل سلام الله عليه ذلك، وكان يمرّضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس على استسرار بذلك كما وصّت به)[1].

وقد كانت تهيئ أمورها لما بعد الوفاة بعد علمها بأنها أول اللاحقين بأبيها، ولما لاقته من عتاة قومه بعد رحيله من الظلم والعدوان، فكان جزاء رسالته وتبليغها أن ضربوا ابنته وأسقطوا جنينها وحرقوا دارها وغصبوا إرثها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فقد كانت - ولفرط عفتها وكمال تسترها - تكره أن تحمل بعد شهادتها على سرير كما هو المتعارف، لما فيه من تجسيم لجسدها ينافي ما كانت عليه من العفة والتستر، لذا فكانت تفكر في أسلوب آخر يصون عفتها حتى بعد الموت، فقد روي أنها (عليها السلام) قالت لأسماء بنت عميس: (إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء أنه يطرح على المرأة  الثوب فيصفها لمن رأى وقالت: إني نحلت وذهب لحمي ألا تجعلين لي شيئاً يسترني، قالت أسماء: إني إذ كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً، أفلا أصنع لك فإن أعجبك أصنع لك؟ قالت: نعم، فدعت بسرير فاكبته لوجهه ثم دعت بجرائد فشدته على قوائمه ثم جللته ثوباً، فقالت هكذا رأيتهم يصنعون، فقالت سلام الله عليها:  اصنعي لي مثله أستريني، سترك الله من النار)[2].

ولما نُعيت إليها نفسها، دعت أم أيمن وأسماء بنت عميس ووجهت خلف علي (عليه السلام) وأحضرته، فقالت: (يا ابن عم إنه قد نعيت إليّ نفسي وإنني لا أرى ما بي إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي: قال لها علي (عليه السلام) أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله، فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثم قالت: يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني فقال: معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي، قد عزّ عليّ مفارقتك وفقدك  إلا أنه أمر لا بد منه، والله جددتِ عليَّ مصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد عظمت وفاتكِ وفقدكِ، فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها، هذه والله مصيبة لا عزاء لها ورزية لا خلف لها، ثم بكيا جميعاً ساعة وأخذ علي (عليه السلام) رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال: أوصيني بما شئت فإنك تجديني أمضي فيها كما أمرتني به واختار أمرك على أمري، ثم قالت: جزاك الله عني خير الجزاء يا بن عم رسول الله، ثم أوصته بأن يتزوج بعدها أمامة بنت أختها زينب، وأن يتخذ لها نعشاً، وأن لا يشهد أحد جنازتها من الذين ظلموا وأخذوا حقها، وأن لا يصلي عليها أحد منهم ولا من أتباعهم وأن يدفنها بالليل إذا هدئت العيون ونامت الأبصار)[3].

وعن أم سلمى إمرأة أبي رافع، قالت: (اشتكت فاطمة (عليها السلام)  شكواها التي قبضت فيها وكنت أمرّضها، فأصبحتْ يوما أسكنَ ما كانت فخرج علي(عليه السلام) إلى بعض حوائجه، فقالت: اسكبي لي غسلا فسكبت فقامت واغتسلت أحسن ما يكون من الغسل، ثم لبست أثوابها الجدد، ثم قالت: افرش لي فراشي وسط البيت، ثم استقبلت القبلة ونامت وقالت: أنا مقبوضة وقد اغتسلت، فلا يكشفني أحد، ثم وضعت خدها على يدها وماتت صلوات الله عليها)[4].

 وعن أسماء بنت عميس، قالت: (لما حضرت فاطمة (عليها السلام)  الوفاة قالت لي : إن جبرئيل أتى النبي (صلى الله عليه وآله) لما حضرته الوفاة بكافور من الجنة فقسمه أثلاثاً، ثلثاً لنفسه وثلثاً لعلي (عليه السلام) وثلثاً لي وكان أربعين درهماً، فقالت: يا أسماء إيتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا فضعيه عند رأسي ثم تسجت بثوبها وقالت: انتظريني هنيهة ثم ادعني فإن أجبتك وإلا فاعلمي أني قد قدمت على أبي.  قال الراوي: فانتظرتها أسماء هنيهة، ثم نادتها فلم تجبها، فنادت يا بنت محمد المصطفى، يا بنت أكرم من حملته النساء يا بنت خير من وطأ الحصى، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى قال فلم تجبها، فكشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدنيا، فوقعت عليها تقبلها وهي تقول: يا فاطمة إذا  قدمت على أبيك رسول الله فاقرأيه عن أسماء بنت عميس السلام، ثم شقت أسماء جيبها وخرجت فتلقاها الحسن والحسين (عليهما السلام) فقالا: أين أمّنا فسكتت فدخلا البيت فإذا هي ممتدة  فحركها الحسين (عليه السلام) فإذا هي ميتة، فقال: يا أخاه آجرك الله في الوالدة، فوقع عليها الحسن(عليه السلام) يقبلها مرة ويقول: يا أماه كلميني قبل أن  تفارق روحي بدني، قالت: واقبل الحسين (عليه السلام) يقبّل رجليها، ويقول: يا اماه أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن ينصدع قلبي فأموت، قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله انطلقا إلى أبيكما علي (عليه السلام) فاخبراه بموت أمكما، فخرجا يناديان: يا محمداه يا أحمداه اليوم جُدد لنا موتك إذ ماتت أمنا ثم أخبرا عليا (عليه السلام) وهو في المسجد فغُشى عليه حتى رُشَّ عليه الماء ثم أفاق، وكان (عليه السلام) يقول بمن العزاء يا بنت محمد ؟ كنتُ بكِ أتعزي، ففيم العزاء من بعدك)[5].

وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول حين غسل فاطمة(عليها السلام) : (اللهم إنها أمتك وابنة رسولك وصفيك وخيرتك من خلقك، اللهم لقنها حجتها وأعظم برهانها وأعل درجتها واجمع بينها وبين أبيها محمد(صلى الله عليه وآله))[6].

وروي أنها  نشفت بالبردة التي نشف بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما غسلها علي (عليه السلام) وضعها على السرير وقال للحسن(عليه السلام): (أدعي لي أبا ذر فدعاه فحملاه إلى المصلّى ومعه الحسن والحسين فصلّى عليها)[7].

وفي رواية ورقة قال علي (عليه السلام): (والله لقد أخذت في أمرها وغسلتها في قميصها ولم أكشفه عنها، فو الله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة، ثم حنّطتها من فضلة حنوط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكفّنتها وأدرجتها في أكفانها، فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت: يا أم كلثوم يا زينب يا سكينة يا فضة يا حسن يا حسين هلموا تزودوا من أمكم فهذا الفراق واللقاء في الجنة، فأقبل الحسن والحسين (عليهما السلام)  ، وهما يناديان: واحسرتا لا تنطفي أبدا من فقد جدنا محمد المصطفى وأمنا فاطمة الزهراء، يا أم الحسن يا أم الحسين إذ لقيت جدنا محمد المصطفى فاقرأيه منا السلام وقولي له:  إنا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا، فقال أمير المؤمن علي (عليه السلام): إني أشهد الله أنها قد حنت وأنت ومدت يديها وضمتهما إلى صدرها مليّاً وإذا بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن ارفعهما عنها، فلقد أبكيا والله ملائكة السموات، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب قال (عليه السلام):  فرفعتهما عن صدرها)[8].

سبب وفاتها:

لما حان وقت رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) ومرض مرضه الذي توفي فيه زارته ابنته متلهفة لرؤيته جازعة من فراقه، فكلمها (صلى الله عليه وآله) مسلّياً إياها وناجاها وصبّرها، عن عائشة، قالت: أقبلت فاطمة (عليها السلام)  تمشي، كأن مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال النبي: مرحبا بابنتي، فأجلسها عن يمينه، أوعن شماله، ثم أسرّ إليها حديثاً فبكت، ثم أسرّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت لها: حدثك رسول الله بحديث فبكيت، ثم حدثك بحديث فضحكت، فما رأيتك اليوم فرحا أقرب من حزن من فرحك؟ وسألتُها عمّا قال فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا قبض سألتها[9]، فقالت: إنه أخبرني أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت[10]، فكانت هذه المدة القليلة التي عاشتها (عليها السلام) بعد رحيله (صلى الله عليه وآله) مليئة بالمصائب والآلام حتى قالت(عليها السلام) :

صُبّتْ عليَّ مصائب لو أنّها     صُبّتْ على الأيام صِرْنَ لياليا

فاجتمعت عليها الآلام النفسية والجسدية وزاد مرضها الذي ألمّ بها بعد ما مرّ بها من أحداث حتى أطفأ شمعة حياتها الوقّادة، وأذوى زهرة شبابها الفواحة، ففارقت الدنيا وهي في عمر الورد وسن الشباب، ولحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله) لتخبره ما صنع بها قومه بعد رحيله، وما لاقته منهم من ويلات وأذى، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في حديث): (وكان سبب وفاتها أن قنفذا مولى الرجل - أي: عمر - لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقطت محسناً، ومرضت من ذلك مرضاً شديداً، ولم تدع أحداً ممن آذاها يدخل عليها) [11].

 


[1] الأمالي للشيخ المفيد: ص281.

[2] بحار الأنوار للعلامة المجلسي:ج43،ص213.

[3] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج43، ص91.

[4] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج43، ص183.

[5] كشف الغمة للإربلي:ص500.

[6] بيت الأحزان للشيخ عباس القمي:ص181.

[7] بحار الأنوار للعلامة المجلسي:ج43،ص215.

[8] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج43، ص179.

[9] الأمالي للشيخ الصدوق: ص692.

[10]  الأمالي للشيخ الطوسي: ص400.

[11]  بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج43، ص170.