وهكذا ولدت فاطمة (عليها السلام)، ودرجت في بيت النبوة، وترعرعت في ظلال الوحي، ورضعت مع لبن خديجة (عليها السلام)، حب الإيمان ومكارم الأخلاق، وحنان الأب الرسول (صلى الله عليه وآله) والأم، أم المؤمنين الطاهرة، وهكذا عاشت فاطمة(عليها السلام) في ظلال هذا الجو الروحي، والسمو العائلي، وتشبّعت روحها بالحنان النبوي الكريم.
وشاء الله تعالى أن تبدأ فاطمة(عليها السلام) طفولتها الطاهرة، في مرحلة من أشد مراحل الدعوة الإسلامية ضراوة ومحنة، وأكثرها قسوة وأذى لأمها وأبيها، لقد ولدت فاطمة(عليها السلام) في حدة الصراع بين الإسلام والجاهلية، وفتحت عينيها في ضراوة الجهاد بين الطليعة المؤمنة، وقريش الوثنية الجائرة، وها هي قريش تفرض المقاطعة والحصار على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأعمامه بني هاشم، وأصحابه من الدعاة وطلائع الجهاد، فيدخل رسول الله(صلى الله عليه وآله) شّعب أبي طالب، وتدخل معه زوجته السيدة خديجة(عليها السلام) المجاهدة رفيقة حياته وشريكته في جهاده، وتدخل معهم فاطمة(عليها السلام)، وتحاصرهم قريش ثلاث سنين.
وفي هذا الشّعب ذاق (صلى الله عليه وآله) ومن معه شظف العيش وقساوة المقاطعة، ومرارة الجوع والحرمان، دفاعا عن الحق وتضحية من أجل المبدأ، وكانت بداية هذا الحصار في السنة السابعة بعد البعثة النبوية، وبهذا عايشت الزهراء (عليها السلام) الحصار، وذاقت في طفولتها مرارة الجهاد وألم الكفاح.
وتمر سنون الحصار، صعبة ثقيلة، ويخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن معه من الحصار والمقاطعة، وقد كتب الله تعالى لهم النصر والغلبة، وتخرج خديجة (عليها السلام)، وقد أثقلتها السنون، وأرهقها عناء الحصار والحرمان، وها هي قد بلغت الخامسة والستين من عمرها الجهادي المشرق، وحياتها المثالية الفريدة في دنيا المرأة، لقد قرُب أجل خديجة (عليها السلام)، وشاء الله تعالى أن يختارها لجواره، فيتوفاها في ذلك العام، الذي خرج فيه المسلمون من الحصار، وكان العام العاشر من البعثة.
وتوفي في العام ذاته أبو طالب(عليه السلام) عم الرسول(صلى الله عليه وآله)، وحامي الدعوة الإسلامية، وناصر الإسلام، ولقد شعر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحزن والأسى، وأحسّ بالفراق والوحشة، لفقده الحبيب والعون والمواسي، فقد خديجة(عليها السلام)، زوجته وحبيبته وعونه، وفقد عمه، الحامي والمدافع عنه، فسمى ذلك العام بـ(عام الحزن)، حقا إنه عام الأحزان، عام فقد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب الناس إلى قلبه، وأكثرهم عطفا عليه، وليس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحده هو الذي رزئ في ذلك العام، بل وفاطمة(عليها السلام) الصبية الصغيرة التي لم تشبع من حنان الأمومة، وعطف الوالدة بعد، فقد شاطرته هذه المأساة، ورزئت هي الأخرى، فشملتها المحنة في ذلك العام الحزين، عام الألم والمأساة، وشعرت بغمامة الحزن واليتم تخيّم على حياتها الطاهرة، لقد فقدت أمها، وفارقت مصدر حبها وحنانها، فشعرت بالألم والفراق يملأ قلبها، ويحز في نفسها.
ويُحِسّ الأب الرسول (صلى الله عليه وآله) بوطأة الحزن على نفس فاطمة (عليها السلام)، ويرى دموع الفراق تتسابق على خديها، فيرق القلب الرحيم، وتفيض مشاعر الود والأبوة الصادقة، فيحنو رسول الله(صلى الله عليه وآله) على فاطمة(عليها السلام)، يعوضها من حبه وحنانه ما فقدته في أمها، من حب ورعاية وحنان، أحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة وأحبته، وحنا عليها، وحنت عليه، فلم يكن أحد أحب إلى قلبه ولا إنسان أقرب إلى نفسه من فاطمة (عليها السلام)، لقد أحبها، وقربها منه، فكان يؤكد -كلما وجد ذلك ضرورياً- هذه العلاقة بفاطمة (عليها السلام)، ويوضح مقامها ومكانتها في امته، وهو يمهد لأمر عظيم، وقدر خطير، يرتبط بفاطمة (عليها السلام)، وبالذرية الطاهرة التي أعقبتها فاطمة(عليها السلام)، وبالأمة الإسلامية كلها.
كان (صلى الله عليه وآله) يؤكد ذلك ليعرف المسلمون مقام فاطمة (عليها السلام)، ومكانة الأئمة (عليهم السلام) من ذريتها، ليعطوا فاطمة(عليها السلام) حقها، ويحفظوا لها مكانتها، ويراعوا الذرية الطاهرة (عليها السلام) حق رعايتها، فها هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعرّف فاطمة (عليها السلام)، ويؤكد للمسلمين: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني)[1]، و(إنما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذها)[2]، وقال(صلى الله عليه وآله): (يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء هذه الأمة وسيدة نساء المؤمنين)[3].
ويسأل الإمام علي(عليه السلام) رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيقول: يا رسول الله أي أهلك أحب إليك؟ قال (صلى الله عليه وآله): (فاطمة بنت محمد)[4].
إن أحاديث وأقوال الرسول(صلى الله عليه وآله) هذه ليست عاطفية بقدر ما هي توجيه للأمة نحو هذه المرأة.
وتكبر فاطمة (عليها السلام) وتشب، ويشب معها حب أبيها (صلى الله عليه وآله) لها، ويزداد حنانه عليها، وتبادله فاطمة(عليها السلام) هذا الحب، وتملأ قلبه بالعطف والرعاية فيُكنِّيها «أم أبيها» لقد كانت تحنو عليه(صلى الله عليه وآله) حنو الأمهات على أبنائهن.
إنه النموذج والقدوة من العلاقة الأبوية الطاهرة التي تساهم في بناء شخصية الأبناء، وتوجّه سلوكهم وحياتهم، وتملأ نفوسهم بالحب والحنان، لقد كانت هذه العلاقة هي المثل الأعلى في رعاية الإسلام للفتاة والعناية بها، وتحديد مكانتها.