لقد عانى أمير المؤمنين (عليه السلام) مصاعب جمّة، ولعلّ ليس هناك من سمعه يبوح بشكاواه الأصليّة خلال حياته، وإن كان (عليه السلام) كثيراً ما يشتكي القوم ويؤنّبهم من على المنبر، ولم تقتصر شكواه على مساءلة الناس على عدم توجّههم إلى ميادين الجهاد، فلقد كان قلب أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتصر ألماً؛ فلقد كان (عليه السلام) يبثّ شكواه إلى الله وكان فؤاده يطفح بالألم، وكان الهاجس الّذي يقلق أمير المؤمنين (عليه السلام) يتعلّق بوضع الأمّة والمجتمع.
الفاجعة وقصة الاستشهاد الأليمة:
أما قصة المؤامرة والاستشهاد فقد خطّط لها أشقى الأشقياء عبد الرحمن بن ملجم المرادي (لعنه الله) في مكة مع نفر من أصحابه الخوارج الذين تعاهدوا أن يقتلوا كلاً من أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) ومعاوية ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص، فكان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) من حصّة الشقي ابن ملجم (لعنه الله) الذي تكفل بإطفاء شمعة حياته.
أقبل ابن ملجم بعد ذلك الاتفاق حتى قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه وكتمهم أمره، وطوى عنهم ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكة من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) مخافة أن ينتشر، وزار رجلا من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب، فصادف عنده قطام بنت الأخضر، من بني تيم الرباب.
وكان الإمام (عليه السلام) قتل أخاها وأباها بالنهروان، فلما رآها شغف بها، واشتد إعجابه فخطبها، فقالت له: ما الذي تسمي لي من الصداق؟ فقال: احتكمي ما بدا لك، فقالت: أحتكم عليّك ثلاثة آلاف درهم ووصيفا وخادما، وأن تقتل عليّ بن أبي طالب.
قالت له: فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا ويقويك ثم بعثت إلى وردان بن مجالد، أحد بني تيم الرباب، فخبرته الخبر، وسألته معاونة ابن ملجم، فتحمل لها ذلك.
وخرج ابن ملجم، فأتى رجلا من أشجع، يقال له شبيب بن بحيرة، وقال له، يا شبيب، هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك، قال: تساعدني على قتل عليّ نكمن له في المسجد الأعظم فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به، وشفينا أنفسنا منه، وأدركنا ثأرنا، فلم يزل به حتى أجابه.
فأقبل به حتى دخلا على قطام، وهي معتكفة في المسجد الأعظم، قد ضربت لها قبة، فقالا لها: قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل، قالت لهما: فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع.
فانصرفا من عندها، فلبثا أياما ثم أتياها، ومعهما وردان بن مُجالد، الذي كلفته مساعدة ابن ملجم (لعنه الله)، وذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين.
فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم، وتقلدوا سيوفهم، ومضوا فجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها عليّ(عليه السلام) إلى الصلاة.
قال أبو الفرج: وقد كان ابن ملجم أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة، فخلا به في بعض نواحي المسجد، ومر بهما حجر بن عدي، فسمع الأشعث وهو يقول لابن ملجم، النجاء النجاء بحاجتك! فقد فضحك الصبح.
بينما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) حتّى قبل ساعة من ضربته يوقظ النائمين في المسجد، وصوت أذانه يدوي في أرجاء الكوفة، وكان الناس حتّى الأمس وحتّى البارحة يسمعون صوته الملكوتيّ، وفجأة تناهى إلى أسماعهم صوت هاتف يقول: (تهدّمت والله أركان الهدى، قتل عليّ المرتضى)[1] ، وهكذا سمع أهالي الكوفة ومن بعدهم جميع العالم الإسلاميّ بشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام).
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أنبأ مرّات ومرّات بخبر شهادته، لعلّ جميع المقرّبين إليه كانوا يعلمون ذلك.
ففي زمن الرسول ((صلى الله عليه وآله وسلم)) حينما وقعت معركة الخندق وبرز فيها الإمام عليّ(عليه السلام) كان شاباً له من العمر نيف وعشرون سنة لعمرو بن عبد ود الّذي كان من أبطال العرب, وله في قلوب قريش وغيرها هيبة ما بعدها هيبة, وظنّوا أنّه سيقضي على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، وبارزه وقتله, جُرِح (عليه السلام) في تلك المبارزة في جبهته وسال منها الدم, ولما رآه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على تلك الحالة رقّ له قلبه, ومسح بمنديله الدم عن جبهته وأمر بتضميد جرحه، ثم اغرورقت عيناه بالدموع, وقال: (أين أكون إذا خُضّبت هذه من هذه؟)[2] إشارة إلى اليوم الّذي تخضّب فيه محاسنه بدماء رأسه.
إذاً فهو كان يترقّب، والمقرّبون منه على علم بالأمر، إلّا أنّ عظم الحادثة مع أنّهم قد أخبروا عنها سلفاً قد أذهل الجميع...
كانت ابنته أم كلثوم جالسة أمامه تبكي، فلما فتح عينيه وقع عليها بصره، قال (عليه السلام) لها: (لا تعزّيني يا أم كلثوم، فإنّك لو ترين ما أرى لم تبك، إنّ الملائكة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض والنبيّين يقولون: انطلق يا عليّ فما أمامك خير لك ممّا أنت فيه)[3].
لَمّا سقط السيف على رأس أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في محراب العبادة كانت العبارة الّتي سُمعت منه وتناقلتها المصادر هي (بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة)![4]، فتلك الليلة الّتي هي بمثابة العزاء والمصيبة بالنسبة للمسلمين جميعاً، تحوّلت إلى ليلة ظفر وسرور وفوز بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) الّذي كان على موعد معها. ويبدو أنّها كانت ليلة جمعة؛ ففي بعض الروايات كانت ليلة التاسع عشر ليلة جمعة، فيما تقول روايات أخرى: إنّ ليلة الحادي والعشرين كانت ليلة جمعة، وفي تلك الليلة أفطر (عليه السلام) عند أمّ كلثوم بالصورة الّتي سمعتم بها، حيث اقتصر إفطاره على الخبز والملح وهذا يعني الإفطار بخبز وحده في واقع الأمر حيث رُفع اللبن وبقي الخبز، فأمضى (عليه السلام) تلك الليلة بالعبادة حتّى الفجر حيث دخل المسجد، بعدها رفع صوته مؤذّناً ونزل إلى محراب الصلاة، وإذا بالمنادي ينادي أثناء الصلاة: (تهدّمت والله أركان الهدى!، ومن المؤكّد أنّ الناس كانوا قد فهموا المعنى من (تهدّمت أركان الهدى)[5]، بَيْدَ أنّ المنادي سرعان ما أردف تلك العبارة بأخرى توضّح مفهومها إذ نادى: (قُتل عليّ المرتضى)[6].
يقول الأصبغ: "فدخلت وإذا بالإمام أمير المؤمنين مسجّى على سرير المرض، وقد شُدَّ موضع جرحه بعصابة صفراء، فلم أستطع أن أُميِّز أيهما أشد صفرة، وجهه أم العصابة! وكان (عليه السلام) يُغمى عليه حيناً، ويفيق حيناً آخر، وفي واحدة من إفاقاته أخذ بيدي وحدّثني - وهذا هو معنى قول الهاتف (تهدّمت والله أركان الهدى) حيث إنّ الإمام (عليه السلام) لم يترك هداية الناس حتّى وهو في هذه الحالة - فلم يضُنّ على الأصبغ بالحديث، فنقل له حديثاً مطولاً، ثمّ أغمي عليه، ثمّ لم يره الأصبغ ولا غيره من أصحاب الإمام (عليه السلام)، حتّى انتقل إلى جوار رحمة ربّه في ليلة الحادي والعشرين وترك الدنيا والتاريخ متّشحين بثياب السواد.
وعندما انتصف الليل أخذوا الجسد الطاهر ودفنوه ورجعوا، ولم يكن المشيّعون سوى أولاد عليّ(عليه السلام) وبعض خواصّ أصحابه (عليه السلام).