رسم الإمام في سياسته الجديدة خطوط الحكم العريضة، وكان وسامها: "لا فضل لعربيّ على أعجميّ". أثارت هذه السياسة غضب المتمرِّدين على الحكم، وكان منهم ما كان من الخروج عليه، فلمَّا أدرك طلحة والزبير رَفَضَ الإمام أن يجعل لهما ميزة على غيرهما، فلا ينالان إلّا ما ينال المسكين والفقير بعطاء متساوٍ.. سكتا على مضضٍ، وأخذا يعملان للثورة ضدَّه، فانضمَّا إلى الحزب الأُموي، وبدأوا بالتخطيط لشن الحرب على أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وهكذا كانت شرارة حرب الجمل.
حيث كانت الواقعة خارج البصرة، عند قصر عبيد الله بن زياد[1]. وكان عسكر الإمام (عليه السلام) عشرين ألفاً، والعسكر المقابل ثلاثين ألفاً[2].
ولمَّا التقى الجمعان قال الإمام لأصحابه: "لا تبدأوا القوم بقتال، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتَّبعوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثِّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً.. ولا تهيجوا امرأةً بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسَبَبنَ أمراءكم وصلحاءكم"[3].
وقيل: إنَّ أوَّل قتيل كان يومئذٍ مسلم الجُهني، أمره عليٌّ (عليه السلام) فحمل مصحفاً، فطاف به على القوم يدعوهم إلى كتاب الله، فقُتل[4].
ثمَّ أخذ أصحاب الجمل يرمون عسكر الإمام بالنبال، حتى قُتل منهم جماعة، فقال أصحاب الإمام: عقرتنا سهامهم، وهذه القتلى بين يديك..
عند ذلك استرجع الإمام وقال: "اللَّهمَّ اشهد"، ثُمَّ لبس درع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقلَّد سيفه ورفع راية رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب، فدفعها إلى ولده محمَّد ابن الحنفية.
وتقابل الفريقان للقتال، فخرج الزبير، وخرج طلحة بين الصفَّين، فخرج إليهما عليٌّ، حتى اختلفت أعناق دوابِّهم، فقال عليٌّ (عليه السلام): "لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتَّقيا الله، ولا تكونا (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثً)سورة النحل: الآية 92، ألم أكن أخاكما في دينكما؟ تُحرِّمان دمي، وأُحرِّم دمكما، فهل من حدثٍ أحلَّ لكما دمي"؟!
قال طلحة: ألَّبت على عُثمان.
قال عليٌّ: "(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ)، يا طلحة، تطلب بدم عُثمان؟! فلعن الله قتلة عُثمان، يا طلحة، أجئت بِعرس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تقاتل بها، وخبَّأتَ عرسك في البيت؟ أما بايعتني؟!".
قال: بايعتك والسيف على عنقي!
فقال عليٌّ (عليه السلام) للزبير: "يا زبير، ما أخرجك؟ قد كنَّا نعدُّك من بني عبدالمطَّلب حتى بلغ ابنك ابن السوء(يريد ابنه عبد الله)، ففرَّق بيننا" وذكَّره أشياء، فقال: "أتذكر يوم مررت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بني غنم، فنظر إليَّ، فضحك، وضحكت إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك: ليس به زهوٌ، لتقاتلنَّه وأنت ظالم له؟".
قال: اللَّهمَّ نعم، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أُقاتلك أبداً...
واحتدمت المعركة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة أشدَّ منه، ثُمَّ إنَّ مروان بن الحكم رمى طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ (عليه السلام)! يرميه فيرديه ويقول: لا أطلب بثأري بعد اليوم[5].
واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ، لم يرَ سوى الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي، فتتهاوى أجساد المسلمين على الأرض.
ولمَّا رأى الإمام هذا الموقف الرهيب من كلا الطرفين، وعلم أنَّ المعركة لا تنتهي أبداً ما دام الجمل واقفاً على قوائمه قال: "ارشقوا الجمل بالنبل، واعقروه والا فنيت العرب، ولا يزال السيف قائماً حتى يهوي هذا البعير إلى الأرض". فقطعوا قوائمه، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل بالسيف، فهوى إلى الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من كان حوله كالجراد المبثوث. وانتهت المعركة بهزيمة أصحاب الجمل.
ثمَّ أمر عليٌّ (عليه السلام) نفراً أن يحملوا هودج السيّدة عائشة من بين القتلى، وأمر أخاها محمَّد بن أبي بكر أن يضرب عليها قُبَّةً، وقال: "انظر هل وصل إليها شيء من جراحة"؟ فلمَّا كان الليل أدخلها أخوها محمَّد بن أبي بكر البصرة، في دار صفية بنت الحارث، ثمَّ دخل الإمام (عليه السلام) البصرة فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة..
ثمَّ جهَّز عليٌّ (عليه السلام) السيّدة عائشة بكلِّ ما ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك، وبعث معها كلَّ من نجا، ممَّن خرج معها، إلّا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي بكر[6].