قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(أَهْلُ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ يُسَارُ بِهِمْ وهُمْ نِيَام)[1]
الدعوة إلى التيقظ وعدم الركون التام للدنيا والاغترار بها؛ فإنهاً زائلة فانية لم تخلق إلا كمرحلة موقتة يختبر فيهاً الانسان ليسعى ويحصل ما ينفعه في الدار الآخرة الباقية، فهي محطة توقف يتزود منها الانسان من الخيرات التي تنفعه بعدئذ وقت فقره وفاقته، ثم تنقضي أيامه فيها وهو لا يشعر، فلا بد من الاهتمام بمستقبله لئلا يغلب وتفوت الفرصة إذ لا مجال للرجوع.
فهذه الدعوة لأجل التنبه لئلا يستغفل الانسان العاقل فيخرج الأمر عن يده بالموت وقد مثل(عليه السلام) حال أهل الدنيا والمسافرين النائمين في واسطة نقل تقطع بهم المسافات الكبيرة من دون أن يشعروا، وعدم شعورهم لا يبرر شيئاً ولا يغير من الواقع شيئاً ؛ لأن الواسطة تسير وتقطع المسافة وتتحول من منطقة إلى أخرى.
ومن هنا جاء تشبيه حال الإنسان في الدنيا بمن ركب واسطة نقل ليصل إلى محطة أخرى فسارت به وهو نائم، فحتماً ستنقضي المسافة وينتقل عن المكان الأول بمجرد مرور الواسطة، ولا دخل لكونه غير ملتفت لذلك.
فالحث على التزود بما ينفع عند لقاء الله تعالى وعدم الغفلة عن الحالة الموعودة المرتقبة، والتي يتعرض لها كافة الخلق وهي انقضاء الدنيا وبقاء الآخرة.
ومن المعلوم أن كل أحد يأخذ نصيبه من الجزاء المناسب لأعماله، فعلى الإنسان أن لا يقصر في هذا الجانب فيخسر يوم القيامة ويكون قد حكم على نفسه بالخسارة الأبدية[2].
كيف يتعامل المؤمن مع الدنيا؟
الدنيا كما أخبر الله سبحانه بقوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[3]، وإنّ من عظيم الأسف أن يظلّ الكثيرون منّا في غفلة وتعامٍ عن ذلك، وقد قال الخالق تبارك وتعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[4].
وقال النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله): «كُنْ في الدنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل»[5]، يوجّهنا الذي ما ينطق عن الهوى(صلى الله عليه وآله) بهذا الحديث الشريف إلى أنّ المؤمن لا ينبغي له أن يتّخذ الدنيا داراً يطمئنّ فيها لأنّها دار هدنة أي: «دار بلاغ وانقطاع»، ونحن على ظهر سفر والسير بنا سريع، وقد رأينا الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد، ويُقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّ موعود، فالواجب إعداد الجهاز لبُعد المجاز، وقد اتفقت على ذلك وصايا أنبياء الله تعالى وأوصيائهم، وقال تعالى حاكياً نداء مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار)[6].
وخاطب مولانا الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) أصحابه قائلاً: «إخواني أوصيكم بدار الآخرة ولا أوصيكم بدار الدنيا، فإنّكم عليها حريصون، وبها متمسّكون، أما بلغكم ما قال عيسى ابن مريمC للحواريّين. قال لهم: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها، وقال: أيّكم يبني على موج البحر داراً تلكم الدار الدنيا، فلا تتّخذوها قراراً»[7].
واجعل الموت نصب عينيك:
أرشدنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) قائلاً: «أكثروا من ذكر هادم اللذّات، فقيل: يا رسول الله، وما هادم اللذّات؟ قال(صلى الله عليه وآله): الموت، فإنّ أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم للموت استعداداً»[8].
وقال الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «من صوّر الموت بين عينيه هان أمر الدّنيا عليه»[9].
والواقع أنّ أصحاب العقول لا يُمكن أن يغترّوا بطول الآمال، وهم يرون في كلّ يوم وفي كلّ صباح وفي كلّ مساء أجناس الناس الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممّن هم أقوى منهم أبداناً وأكثر أموالاً كلّ هؤلاء يُدفنون جميعاً يُشيّعون ليُدفنوا في المقابر، وكلّنا صائرون إلى ذلك المصير، وقد قال مولانا أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «من أيقن أنّه يُفارق الأحباب، ويسكن التراب ويواجه الحساب، ويستغني عمّا خلف، ويفتقر إلى ما قَدّم، كان حريّاً بقصر الأمل وطول العمل»[10].
إنّ المسلم إذا استحضر الموت وجعله نصب عينيه اجتهد في الطاعة، ونشط في العبادة، ومن يفعل ذلك أُكرم بتعجيل التوبة، وقناعة القلب، وأمّا أهل الغفلة الذين نسوا الموت وذكره، فحالهم لم يعد خافياً على أكثر عباد الله، لأنّ جُلّ أحوالهم أصبحت تُرى وتُشاهد، وأهل النظر السليم يرون كيف قد عوقب الذين نسوا الموت بتسويف التوبة، وعدم الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
واعلم أنّ لك ما قدّمت:
لبيان هذه الكلمة المباركة التي نطق بها الإمام الصادق(عليه السلام) أثرنا المجيء بمثالين عظيمين يُبيّنان هذا المطلب بأوضح بيان، وأفصح لسان، فقد روى سويد بن غفلة، فقال: دخلتُ على أمير المؤمنين(عليه السلام) داره، فلم أر في البيت شيئاً، فقلتُ فأين الأثاث يا أمير المؤمنين؟ فقال: «يا بن غفلة، نحن أهل البيت لا نتأثّث في الدنيا. نقلنا أجلّ متاعنا إلى الآخرة، فإنّ مثلنا في الدنيا كراكب تحت شجرة ثم راح وتركها»[11].
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رَحِمَ الله امْرَأً... اغْتَنَمَ الْمَهَلَ وبَادَرَ الأَجَلَ وتَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ»[12]، وقال(عليه السلام): «طوبى للراغبين في الآخرة الزاهدين في الدنيا، أولئك قوم اتخذوا مساجد الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طهوراً، والقرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، ثم قرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم(عليه السلام)»[13].
مجلة بيوت المتقين العدد (96)
[1] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص479.
[2] انظر: أخلاق الإمام علي(عليه السلام)، السيد صادق الخرسان: ج1، ص129.
[3] سورة الحديد: آية20.
[4] سورة الأنعام: الآية 32.
[5] الأمالي، الشيخ الطوسي: ص381.
[6] سورة غافر: آية 39.
[7] الأمالي، الشيخ المفيد: ص43.
[8] مستدرك الوسائل، الطبرسي: ج2، ص100.
[9] غرر الحكم، الآمدي: ح8604.
[10] كنز الفوائد، الكراجي: ج1، ص351.
[11] تنبيه الخواطر، ورام بن أبي فراس: ج2، ص22.
[12] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص103.
[13] الخصال، الشيخ الصدوق: ج1، ص337.