أوضع العلم ما وقف على اللسان

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

(أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ، وأَرْفَعُه مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ والأَرْكَانِ)[1]

في هذه الحكمة يقسم الإمام (عليه السلام) العلم إلى قسمين:

قسم يتصف بالضعة والتسافل وعدم التأثير وهو ما كان حصة اللسان من دون أن يستوعبه القلب ويحتويه الفكر استيعاباً واحتواءً مناسباً لجلالة قدر العلم.

وقسم يتسم بالرفعة وعلو الشأن والتأثير على الإنسان من جميع جوانبه الجسدية والفكرية، فلا يتصرف إلّا وهو محتفظ بما علِمَه فكأنّ العلم دليله في طريق الحياة فلا يصدر تصرف مشين يتنافى والعلم من أي جارحة من جوارح بدنه ولا من أي طرف كان.

لأنّ الإنسان عندئذٍ على مستويين:

إما أن تتعمق المعلومة في داخله ويعيشها فكرة ومعنى فيطبقها في حياته وتكون جوارحه وأطرافه الجسمانية مستجيبة له في ذلك، فلا يتخلّف قولُهُ عن فعلِهِ ولا فعلُهُ عن قولِهِ، بل يتطابقان دائماً لكونه قد اقتنع بالفكرة فجذَّرها في نفسه، وساعدته على ذلك جميع متعلقاته الفكرية والبدنية.

وإما أن يكون على العكس فلا تأخذ المعلومة طريقها إلى داخله، بل تظل حكراً على لسانه يرددها عند اللزوم ويستخدمها عند الحاجة فلا تعطيه ما يرومه منه من استخدامات في مجالات النفاق الاجتماعي والتمويه والخداع، بل تتعطل عند حدود المظاهر فينكشف أمره ويعرف الجميع من ضحايا التمويه والخداع بأنّه مفترٍ في ادّعائه وما يردده فلا تنجح خطته.

ولذلك كله دعانا(عليه السلام) إلى التحلّي بصفة الواقعية والصدق فلا نحمل العلم للدعاية والإعلام ليقال إنّنا على علم وإنّما نحمله للاستفادة الشخصية والتحلّي به لينعكس بالتالي على تصرفاتنا وتمتزج الفكرة بحيث تنطلق من حيث الصدق لتكن مؤثرة ولها رونقها وجاذبيتها.

وقد بيّن(عليه السلام) هذه النصيحة عن طريق الموازنة بين الأشياء ومن المعلوم أنّ الجميع يرغب في الأحسن ويبتعد عن الأسوء -على الغالب- وعسى أن نتأثر بقوله(عليه السلام) فتقتلع جذور: الرياء، النفاق، المباهاة الممقوتة، المجاملة الكاذبة... من المجتمع لنكون صادقين وبالتالي مصدقين.

ولا بدّ من الانتباه إلى أنّ المقصود بالعلم ما كان منجياً ومستعملاً في طاعة الرحمن تعالى، وأما ما كان مستعملاً بخلاف ذلك فهو من العلم الممقوت[2]

 العلم عند أهل البيت(عليهم السلام):

العلم بمعناه الشامل هو أن نعرف الشيء كما هو في حقيقته وواقعه ولا وزن لأي علم عند أهل البيت(عليهم السلام) إلّا أن يجلب نفعاً، أو يدفع شرّاً تماماً كما قالوا عن العقل؛ لأنّ العلم عقل، والعالم هو العاقل.

فالعالم يعقل الأمور ويميّز بين صحيحها وسقيمها ولا يستطيع أن نكسب علماً بدون العقل، وبالعقل يتمكن العالم من كشف الأمور الغامضة وإخراجها من الظلام فيوضحها بنور عقله.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ»[3] وجاء عن الإمام الكاظم(عليه السلام): «أولى العلم بك مالا يصلح لك العمل إلّا به»[4] والغاية من هذا العلم الذي يكون على بصيرة ووعي هو الوصول إلى العمل النافع، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلّا بُعداً»[5].

وهنا نتذكر وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام عندما قال له: يا هشام: «يا هشام إنّ ضوء الجسد في عينه، فإن كان البصر مضيئا استضاء الجسد كله. وإن ضوء الروح العقل، فإذا كان العبد عاقلا كان عالما بربه وإذا كان عالما بربه أبصر دينه. وإن كان جاهلا بربه لم يقم له دين. وكما لا يقوم الجسد إلا بالنفس الحية، فكذلك لا يقوم الدين إلا بالنية الصادقة، ولا تثبت النية الصادقة إلّا بالعقل»[6].

 جاء في أصول الكافي تحت عنوان: (المستأكل بعلمه)، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أوحى الله إلى داوُد(عليه السلام): لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين»[7].

ومعنى ذلك إيّاك أن تركن إلى مَن يتخذ من عقله وعلمه خادماً مطيعاً لبلوغ أهوائه الشخصية ومطامعه الخاصة؛ لأنّه يقطع عليك الطريق إلى رحمتي ومرضاتي.

ولا بدّ أن يقترن العلم بالعمل الصالح ويصدّقه ولا فلا فائدة فيه، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، والْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَه وإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه»[8].

وعنه(عليه السلام): «مَن علم عمل»[9].

مجلة بيوت المتقين العدد (94)

 


[1] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص505.

[2] انظر: أخلاق الإمام علي(عليه السلام)، السيد صادق الخرسان: ج1، ص125.

[3] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص393.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج75، ص333.

[5] الكافي، الشيخ الكليني: ج1، ص43.

[6] تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني: 396.

[7] الكافي، الشيخ الكليني: ج1، ص46.

[8] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص539.

[9] عيون الحكم والمواعظ، الواسطي: ص428.