قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(بِكَثْرَةِ الصَّمْتِ تَكُونُ الْهَيْبَةُ، وَبِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ الْمُوَاصِلُونَ وَبِالْإِفْضَالِ تَعْظُمُ الْأَقْدَارُ، وَبِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ النِّعْمَةُ، وَبِاحْتِمَالِ الْمُؤَنِ يَجِبُ السُّؤْدُدُ، وَبِالسِّيرَةِ الْعَادِلَةِ يُقْهَرُ الْمُنَاوِئُ، وَبِالْحِلْمِ عَنِ السَّفِيهِ تَكْثُرُ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِ)[1].
يدعو أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذه الحكمة إلى التحلي بصفات:
الأولى: الصمت: السكوت وهو ضروري في كثير من الحالات الاجتماعية، والعكس يسبِّب ـ أحياناً ـ آلاماً ومشاكل للمتكلم أو للغير، والصمت منجاة من الخطر، إذ كثيراً ما يقع الإنسان في ورطة نتيجة تكلمه، والصمت موجب لقلة الخطأ؛ لأن كثرة الكلام قد تجر للخطأ، وهو مما يساعد على إضفاء الوقار والهيبة على الصامت فيقلل من حالات التعدي عليه، ولا يُقتحم بسهولة، فينجو صاحبه من كثير من حالات الأذى والشر.
الثانية: النَصَفَة: الإنصاف والعدل وهو مطلب عام يبحث عنه الجميع ولو لم يمارسوه من موقع التنفيذ إلّا انه محبب للنفوس عموماً، فإذا تحلّى الإنسان بذلك كَثُرَ مَن يوادّه ويواصله رغبة في سيرته، وترجيحاً له على غيره لهذه الصفة المهمة التي تسيطر على النفوس.
فالدعوة إلى الإنصاف والعدل؛ لأنه يحقق الأمان والاستقرار، ويقيم أمر الله تعالى في الأرض، وعندئذ تقّل فرص وقوع الظلم المقيت.
الثالثة: الإفضال: الإحسان المتعدي إلى الغير[2].
والأقدار: (جمع القَدر: الحرمة والوقار، الشأن)[3].
إن الإحسان يحتل موقعاً مهما في القلوب فبه تتأكد المحبة، وتتجذر المودة، ويعلو شأن الإنسان المحسن، ويكثر محبّوه وموقروه؛ لأن كل أحد يرغب في التكريم وإيصال النفع إليه ولو كان مستغنياً عنه؛ لأن النفس قد فُطِرَت على حب مَن أحسن إليها إذ يجد الإنسان أنّ المحسن محبٌ له وصادق في محبته ولذا أوصل إليه الإحسان.
وإذا ساد هذا الجو فستعم الصلة بين الإنسان وأخيه الإنسان مهما كان المقابل في مستوياته المختلفة: الاجتماعية، العلمية، الاقتصادية، المذهبية وغيرها بعد أن كان مفتاح القلوب ـ السوّية ـ هو الإحسان فالدعوة من أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الإحسان ليعم الاستقرار، وانفتاح البعض على البعض الآخر، ويكون كل من فاعل الإحسان ومتلقيه منتفعاً؛ فإن الفاعل للإحسان يزداد احترامه وتوقيره ويعلو شأنه وحظه بين الناس، وكذلك الواصل إليه الإحسان ينتفع بوصول الإحسان فيسد حاجته بذلك سواء كان الإحسان مادياً أم معنوياً.
الرابع: التواضع: ضد التكبر فهو صفة مطلوبة محبوبة تساعد على تكوين الشخصية الاجتماعية؛ لأن تعويد النفس على احترام الآخرين، وتوقيرهم والتعامل معهم بطيب يؤثر أثراً بالغاً في نفوسهم، فيتعلقون بالمتواضع تعلقاً نفسياً عجيباً بعد أن وصل إلى قلوبهم بالتقدير والتوقير، وهذان أمران يطلبهما كل أحد حتى الصغير أو الوضيع اجتماعياً.
فالدعوة للتواضع باعتباره عاملاً مهماً للكسب الأخلاقي في المجتمع وعنصراً مهماً في التأثير على القلوب، وجعلها في صف المتواضع، فيكثر الأصدقاء والمعاونون، وبهذا الخُلُق الفاضل يعرف الإنسان انه محل عناية الله تعالى وفضله؛ إذ العمل بما يحب الله تعالى يدل على رضاه وإنعامه على العبد.
الخامسة: المؤن جمع المؤنة: (القوت، الشدة والثقل)[4] (السؤدد (كَرم المنصب، السيادة، القدر الرفيع)[5].
إذا خفف الإنسان من أثقال غيره أوجب ذلك أن يعترف له بالجميل وحسن الصنيع، ويكون محلاً للثقة والاحترام والمتابعة؛ لان أي شي يفعله الإنسان من شأنه مساعدة الآخرين، يترك أثراً طيباً في نفوسهم، ويكون سيدهم بلا منازع؛ لما قدمه لهم من يد المعونة والمساعدة في ظرفهم الخاص، فالدعوة إلى أن يتحلى الإنسان بهذا الخُلق مع ما فيه من التعب الجسمي أو النفسي ـ أحياناً ـ إلّا انه يُكثِّر الأصدقاء والمحبين ويُعلي قدر صاحبه ويرتفع به حتى يجعله مسموع الكلمة بلا منازع وفي هذا عزة اجتماعية وكرامة ينشدها الإنسان للرفعة في الدنيا والآخرة.
السادسة: التعامل الطيب والسيرة الحسنة: يكسب الإنسان أخواناً وأعواناً ومحبين فيكونوا معه على عدوه، ويستطيع تحقيق أمانيه، ومما لا يخلو منه أحد ـ من الناجحين في الحياة ـ هو وجود المناوئ وهو المفاخر المعادي فلدفع عاديّة المعادي ينبغي للإنسان أن يتعامل ايجابياً مع غيره ليكثر أنصاره عند الحاجة[6].
مجلة بيوت المتقين العدد (88)