قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(الْبُخْلُ عَارٌ، وَالْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ، وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حَاجَتِهِ، وَالْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ)[1]
قد حوت هذه الحكمة مجموعة من التوجيهات المهمة والتي تثمر بمجموعها شخصية متوازنة للإنسان في إطار المجتمع، فيحسن أن نتسلسل في شرحها والاستظهار منها على شكل نقاط:
النقطة الأولى: بيان أن البخل جامع لمساوئ العيوب، ويؤدي إلى كل سوء، مما يوجب التخلي عنه لو ابتلي به الإنسان، أو الابتعاد عنه ابتداءً.
النقطة الثانية: الجبن: ضد الشجاعة، ومن المعلوم أن القدرة على المواجهة والمدافعة ومغالبة النفس في حب السلامة من صفات الكال للإنسان، بينما نجد أن العكس بالعكس، أي أن ضعف النفس وخورها والخوف والهلع من صفات النقص والذم للإنسان؛ لأن الكامل عليه أن يتحلى بالقدرة على مواجهة الأزمات، والتغلب عليها، والتجاوز عنها إلى مرحلة السلامة والنجاة.
فالإمام (عليه السلام) يحذر من الجبن؛ لأنه مما يُنتقص به الإنسان، فلا بُدَّ من التخلي عنه والتحلي بالشجاعة والمواجهة؛ لتكتمل شخصية الإنسان.
النقطة الثالثة: من الأمور التي يهرب منها الإنسان في حياته حالة (الفقر)؛ لأنه من المصائب العظيمة التي تترك آثار سلبية كثيرة، ومنها أن الإنسان الذي له القدرة الكاملة على فهم الأمور بالشكل الصحيح والسريع والمباشر، فهو يتصف بالكال من حيث الفهم، لكنه إذا شعر بفقره فلا يكون قوي الحجة، واضح البيان، بل يتلكأ ويتعثر ويتلعثم، فكأن الفقر یکون حاجزاً دون إفصاحه عما يريد هذا على نسخة (حجته). وأما على النسخة الأخرى (حاجته) فهو يخرس ويقف موقف المتحيّر لو أصابه الفقر، لشعوره بالحرج من الداخل، فلا يمكن إبداء حاجته ولا السيطرة على وضعه المالي؛ ولذا يعيش الضنك والفاقة بشكل يدعو للشفقة، خاصة إذا كان ممن يتحلى بصفات كريمة سواء كانت علمية أم عملية، فالوطأة عليه أثقل والخجل من إبداء الحاجة أشد، ولعل من الممكن أن نستظهر دعوة الإمام (عليه السلام) إلى احترام صاحب الفهم والفطنة، وعدم الازدراء به لعدم إمكانيته على تأدية مراده، وأيضاً إلى رعاية حال الفقراء ومعانتهم على مجاوزة المحنة.
النقطة الرابعة: ثم أردف أمير المؤمنين (عليه السلام) الجملة ـ الفقر يُخرس الفَطن عن حجته أو حاجته ـ بقوله (عليه السلام) ـ المُقل غريب في بلدته ـ للتأكيد على الاهتمام بشأن مشكلة الفقر، وانه مما يتساوى فيه الجميع، وانه لا تأمين ضده، ولا يتعالى عنه أحد مهما كان مركزه الاجتماعي، الاقتصادي، الديني، وغيرها.
وإذا كان كذلك فمن الضروري جداً أن يتعاون الإنسان الميسور الحال مع أخيه الإنسان الذي اقَل - بمعنى أشرف على إعلان الفقر التام والاحتياج، لكنه في وقته الحاضر لديه بعض الشيء ـ والدعوة لمساعدته ومعونته لرفع وحشة الغربة عنه ولو كان في بلده؛ لأنّ المال يحيط الإنسان بما يرفع الوحشة، ويهيئ له مَن يصحبه ولو لمالِهِ، وهذا أمر مهم يعاني منه الكثير، فلا بد أن لا نستوحش من فقير، أو مشرف على الفقر، أو نبتعد عنه، أو نقلل من احترامنا له واهتمامنا به؛ لأن المال ليس كل شيء في الحياة، ولا يعني شيئاً كبيراً سوى انه معونة الله تعالى لعباده في الدنيا لتمشية أمور معاشهم وحياتهم، فبقاؤه غير أكيد، ووجوده محتمل غير متیقن، فلا بد أن يعتمد عليه، وان لا يُجعل حاجزاً بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ لأنه سرعان ما يزول، فيتمنى الإنسان ـ العاقل أن لو لم يكن قد وضعه بينه وبين أخيه الإنسان[2].
النقطة الخامسة: إن الشعور بعدم القدرة على الشيء أيّاً كان يتعب الإنسان نفسياً وربما جسدياً ولذلك عدة ظاهرة، كعدم القدرة على التعلم، أو الغنى، أو الارتقاء إلى مستوى أعلى يحلم به، أو الحلول في مكان ما، أو الحصول على أُمنية ما، أو ما شابه ذلك، أو مما يثير في الإنسان مشاعر المعاناة والتألم الداخلي، ولذا أخبر (عليه السلام) عن أن العجز في أية مرحلة من مراحله وأي مستوى من مستوياته، وفي أيّ ظرف يقع يعتبر مفسداً لما أصابه وآفة تنذر بالخطر؛ لأنها تستولي عليه في يوم ما وتقضي عليه.
فالدعوة إذن إلى التحلّي بروح الانفتاح ومحاولة التشبّث والإعادة، وعدم الاكتفاء بالمرة حتى لا تحصل حالة تسمى بالعجز، فانه إذا عرف الإنسان نفسه بأنه عاجز عن شيء فان شعوره هذا كفيل بالحيلولة دونه ودون المواصلة في الحياة.
فلابد من المواصلة وعدم الاستسلام لأول الحوادث الحاجزة أو المعرقلات الموضوعة، بل على المؤمن أن يتسم بروح تفاؤلية عالية توصله إلى مطلوبه المشروع طبعاً وان طال الزمان؛ لئلا يتحقق العجز فيصاب بالآفة.
النقطة السادسة: لا شك أن الإنسان معرَّض للابتلاء وحلول المصائب به، فهو والحالة هذه إما أن يستسلم وينهار كما هو حال الضعيف، أو يواجه المشكلة باحثاً عن حلّها ويتجلّد، ولا يشكو مما أُبتلي به؛ ليكون بذلك شجاعاً؛ لأن روح المقاومة وعدم الاستسلام للمصائب تعتبر روحاً عالية لا تقل في أهمية الاتصاف بها عن تلك الروح القتالية العالية، حيث يتعرض الإنسان في كلتا الحالتين لضغط حاد فيحاول التخلّص من وطأته والنجاة بأقل الخسائر.
فالدعوة للتحلّي بصفة الشجاعة عبر مواجهة الطوارئ والتجلّد أمامها وعدم الاهتمام البالغ (المميت) بها، أو بث الأحزان والشكوى مما أصاب من خلال تلكم الطوارئ لئلا يُواجه من قبل الآخرين بالرفض أو الاشمئزاز، فإنها حالة خاصة، لا يتسع صدر كل أحد لتحمل بعض أعبائها ولو الكلامية من خلال الشكوى.
النقطة السابعة: إذا عرفنا أن اللغة تحدد الزهد بأنه الإعراض عن الشيء احتقاراً له[3].
عرفنا أيضاً أن الزهد مترفّع عما في أيدي الناس لا تجاهه خطّاً غير ما سلكوه من خطّ التّلهف وراء الأشياء المادية والاستماتة في سبيل الحصول عليها.
وعرفنا أيضاً أن الزاهد له رصيد دائم لا ينضب في يوم ما، ولا تعرض عليه عوارض النفاد والاستهلاك؛ لأن رصيده يستمّد من إيمانه وثقته بأن الدنيا وما فيها لله تعالى، وبأن الدنيا وما فيها زائل، وأن من يحوي شيئا مادياً لابد أن يفارقه في يوم ما، فهذا الإيمان العميق بالفكرة يجعله يتخفّف من كثير مما يتمسك بأهدابه الآخرون، بل ويستميتون في ذلك.
وإذا كان المقصود للناس التغلّب على صعاب الدنيا بالمال وبالكمية الكثيرة منه ليطمئنوا إلى حفظ مستقبلهم، فالزاهد قد حفظ مستقبله بالاستعانة بالله والتوكّل عليه وتدبير شئونه الدنيوية بما لا تتوقف معه العجلة من دون طلب المزيد الذي يذهب وتبقى تبعته.
فحقّاً إن الزاهد بحصوله على هذه السيطرة النفسية العظيمة ثري لا يحتاج إلى معونة أحد.
النقطة الثامنة: إن الورع يحصل للإنسان إذا اجتنب المعاصي والشبهات، وبذلك يكون غالباً قد أحاطت به سترة واقية من العَوادي والآفات التي يحتمي منها الإنسان غالباً: المرض، الفقر، عدم الاستقرار، الفشل في الحياة بأنواعه، عدم المصداقية والموضوعية بين أفراد طبقته؛ لأن المعاصي أو الأمور المشتبهة التي تكون في خطٍ بين الوضوح والغموض فلا يجزم بأنها نقية إذا ابتعد عنها الإنسان سوف يتخلص من عُقد ومزالق ومطبّات ومشاكل يتعرّض لها غيره كثيراً نتيجة عدم التورّع والاجتناب، الأمر الذي يصلح أن يكون خطّاً تقاس عليه الأمور كما دّلت التجربة عليه وأكّدته الروايات.
فالدعوة في هذه الحكمة إلى التخلّي عن البخل، وعن الجبن، وعن حالة الهلع، وعدم المواجهة، وعن الاقتحام في الشبهات، وعدم التورع، وهي دعوة في ذات الوقت إلى التحلّي بالسماحة والقوة والصبر والزهد في ما حَرم الله، والتورع عما فيه شبهة فضلاً عن الحرام؛ لتكتمل بالتالي شخصية الإنسان متوازنة قوية[4].
مجلة بيوت المتقين العدد (86 - 87)