قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(إِنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَلَمْ يَدَعْهَا نِسْيَاناً فَلاَ تَتَكَلَّفُوهَا)[1].
عندما نقف متأملين لهذه الحكمة، فإننا نلحظ ما فيها من استيعاب لأحكام الشريعة الإسلامية، وما فيها من توضيح لطبيعة هذا الدين وحقيقته.
إذا نظرنا إلى هذه الحكمة، فإننا نجد أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حدد لنا معالم هذا الدين وطبيعته، فعبّر عن شرع الله بألفاظ أربعة: الفرائض والمحارم والحدود والمسكوت عنه، وترتبط هذه الألفاظ ارتباطا وثيقا محكماً، لترسم لنا التصوّر الصحيح للمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المسلم في هذه الدنيا.
لقد كانت أول قضيّة يتناولها الحديث بيان موقف المكلّف، نحو ما يرد عليه من الأوامر في الكتاب والسنة فقال: «إِنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا»، إنه توجيه إلى عدم التفريط في أداء الفرائض، والفرائض هي الواجبات الشرعية التي أوجبها الله على عباده وألزمهم بها، ومنها ما يكون واجبا على كل أفراد الأمة، وهو ما يسمّى بالفرائض العينيّة، ومنها ما هو واجب على الكفاية، أي: إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
فهذه الفرائض - بنوعيها - واجبة على كل مكلّف مادام مستطيعاً، وإذا ورد الأمر من الله تعالى أو من رسوله(صلى الله عليه وآله) فلا مجال لردّه أو عدم تنفيذه؛ لأن هذا هو مقتضى إيمان العبد بالله ورسوله، كما قال الله تعالى في كتابه: (وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[2].
فهذه الطاعة هي عنوان العبودية والتسليم لحكم الله وشرعه.
أما فيما يتعلّق بالمحرّمات، فقد أرشدنا أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى تركها فقال: «وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا»، فدعا إلى ترك المعاصي بجميع أنواعها، وإنما عبّر هنا بلفظ الانتهاك؛ ليبيّن ما عليه حال من يقارف المعاصي من تعدٍّ وعدوان على أحكام الله عزَّ وجلَّ، فأتى بهذه اللفظة للتنفير عن كل ما نهى الله عنه.
ولما كان مدار التكليف كله على فعل المأمور وترك المحذور، والتقيد بأحكام الشريعة، والالتزام بما ورد فيها، والوقوف عند حدودها وعدم تجاوزها، أكد أمير المؤمنين(عليه السلام) ذلك بقوله: «وَحَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا».
والحدود لفظة وردت في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، ولها مدلولات كثيرة بحسب ما تتعلق به، ففي الأوامر: يكون الوقوف عند حدود الله بعدم الخروج عن دائرة المأذون به إلى دائرة غير المأذون، وأما فيما يتعلّق بالنواهي، فيحرم مجرّد الاقتراب منها؛ لأن الله تعالى إذا حرّم شيئاً، حرّم كل ما يؤدي إليه، وتلك هي خطوات الشيطان التي جاء التحذير منها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [3].
فإذا كان هذا هو موقف المسلم تجاه ما ورد بيانه في الشريعة، فما هو موقفه تجاه ما سكت عنه الشرع ولم يوضح حكمه؟ وللجواب عن هذا نقول: إذا لم يرد نصّ في حكم مسألة ما، فإننا نبقى على الأصل، وهو الإباحة.
وهذا هو السكوت المقصود في قوله: «وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ- رحمة لكم غير نسيان - فَلاَ تَتَكَلَّفُوهَا»، إنه سكوت عن إظهار حكمه، ومقتضاه أن يكون باقيا على أصل إباحته، ومما سبق يتبين لنا معاني تلك الألفاظ الأربعة، والتي ترشدنا إلى القيام بحقوق الله ولزوم شريعته، مع العفو عما سُكت عنه، فدخل الدين كله في تلك الكلمات القليلة الجامعة المانعة لأمير المؤمنين (عليه السلام).
مجلة بيوت المتقين العدد (84)