قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ)[1]
الزُّهْدُ لغة: خلاف الرَّغبة[2].
والزهد عند علماء الأخلاق: هو صرف الرغبة عن الدنيا وعدم إرادتها بقلبه إلّا بقدر ضرورةَ بدَنه. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن، قال سبحانه: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)»[3].
الزهد من الخصال الحميدة التي ينبغي التحلّي بها والاتصاف بها مهما أمكن؛ لأنّه يهيئ للإنسان فرصة التوافر على حالات نفسية عالية يبحث عنها الإنسان ـ غالباً ـ لأنّها تريحه من عناء الدنيا والحياة المادية المتعبة بتطورها وتقنياتها وما تستوجبه من مظاهر تثقل روح الإنسان قبل جسده وتبعده عن ساحة رضوان الله ـ إلّا مَنْ عصم تعالى ـ إذاً، فأمير المؤمنين(عليه السلام) في هذه الحكمة يدعو إلى التحلّي بهذه الخصلة الحميدة ويؤكّد على أمر ٍمهم يكتسب أهمية بالغة وهو ضرورة عدم التظاهر والتجاهر بهذا الشيء لئلا يُصاب الإنسان الزاهد بداء الغرور والإعجاب الذي تقل معه فرصة المواصلة والمتابعة على الخطى نفسها على أساس أنّه واصل إلى هذه المرحلة المتقدّمة فلا يلّم بذنب أو لا يضرّه شيء اتكالاً على الزهد فلا بدّ من الحذر من مصيدة الشيطان لئلّا يقع الزاهد فيها؛ لأنّه بمرصد ومرقب من شياطين الجنّ والإنس فلأنّه بدأ أُولى خطواته على طريق الله تعالى وبدأ فعلاً بمخالفة هواه ونفسه الأمارة بالسوء، وهذا أمر لا يروق لأعداء الله تعالى فيحاولون طرح العثرات وتكثير العراقيل فيكون العُجب والإعجاب، واستكثار العمل واستقلال عمل الآخرين، وعدم الاعتناء بغيره، وسوء المعاملة والمجابهة الحادة، مما لا يتلاءم مع تعريف الزهد؛ لأنّ مَن أعرض عن الدنيا ـ التي هي موضوع الزهد هنا في المصطلح الأخلاقي ـ عليه أن يحتقر عملياً كلّ المغريات والصوارف الطبيعية والمصطنعة لأجل أن يتقرّب إلى ساحة عفو الله تعالى ورحمته، ولا يكتفي برفع الشعارات لكسب الثقة مع أنّ الواقع بعيد ومتفاوت. مع الظاهر.
فالإمام (عليه السلام) دلّنا على أفضل الطرق الموصلة إلى الإعراض عن الدنيا بأن يجاهد الإنسان نفسه واقعاً ومن منطلق الداخل والضمير قبل منطلق المظهر الخارجي، فالزاهد حق الزهد مَن ابتعد عن الحرام ليتوفر بعد ذلك كلّه على ما يؤهّله للارتقاء في سلالم الكمال؛ إذ الأمر غير مقتصر على لبس الخشن أو أكل الخشن أو المعاملة الخشنة بل الأمر يتسم بعمق أصيل ومرتكز متجذر ـ أو يجب أن يتجذر ـ في الإنسان ليستقر في الأعماق فتنطلق التصرفات عن قناعة لا تقليد وعن وعي لا محاكاة، نعم لا ينُكر تأثير المحاكاة أحياناً إلّا أنّ لها مرحلتها و تأثيرها المؤقت بكلّ تأكيد بينما يريد أمير المؤمنين(عليه السلام) منّا أن نتعوّد ذلك ونتصف به لنكسب الأصدقاء على طريق الله تعالى المتمثّل في الدعوة إلى الإسلام ومبادئه ومثله العليا التي تحقق للإنسانية ما تحلم به وتوفر كلّ وسائل التحضّر والتقدّم بأشكاله ومراحله ـ لكن بالشرط المذكورة ـ أعني تجذر الإيمان وانطلاق الفكرة من الأعماق[4].
مجلة بيوت المتقين العدد (79)