قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(اعْتَصِمُوا بِالذِّمَمِ فِي أَوْتَادِهَا)[1]
اعتصم: التجأ وامتنع[2]. الذمم جمع الذمّة: الأمان؛ العهد، الضمان، يقال أنت في ذمّة الله، أي: في كنفه وجواره[3]. أوتاد جمع الوَتَد: ما رُزَّ ـ أي ثُبّت ـ في الحائط أو الأرض من خشب ونحوه[4].
يُبيّن أمير المؤمنين (عليه السلام)، في هذه الحكمة أمراً يحتاج إليه غالب الناس؛ فإنّ الإنسان محتاج إلى سند وقوّة وضمان يرتكز عليه عند الحاجة، وكانت هذه الأمور كثيرة شائعة في زمنه، ولم تقل أهميتها في زمننا إلّا نسبياً للتفكك الأسري الحاصل في بعض المجتمعات خصوصاً المتمدنة والمنشغفة بحب التطوّر السريع المفاجئ، والتي تحسب كل دعوة إلى التروي والتمهل وأداً لفكرتهم وعرقلة لخطواتهم.
وهذه الحاجة تحتم على الفرد أو المجتمع أن يتكتل ويجتمع مع الآخرين؛ وهؤلاء ـ الآخرين ـ ليسوا على نسق واحد ولا نسج متماسك، فقد يلتجئ الإنسان إلى مَن لا عهد عنده ولا صدق ولا وفاء ولا إيمان بكل هذه المبادئ فيخسر نفسه؛ لأنّه أمّا أن يفشل في محاولته أو يؤثر ذاك الطرف فيه، وفي كلتا الحالتين يترك الأمر ثُقلاً على نفسيته وتوجهه الفكري.
فهي ـ الحكمة ـ دعوة إلى اختيار الجهة المناسبة ليكون الاستناد إليها استناد إلى ركن وثيق ومأوى أمين، وذلك محافظة على الأخلاق الصحيحة، والمبادئ الراسخة في النفوس؛ لئلا تتأثر بالاحتكاك خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يفرضه الالتجاء والتعاهد من تبعية فكرية، ثقافية، سياسية، اجتماعية، وحتى اقتصادية فيكون المعاهد المعتصم تحت الشعاع لا يستطيع التغيير أو التغيّر؛ فنخسر المبادئ الصحيحة وهذا أمر صعب جداً؛ لأنّه يؤدي إلى انهيار في الأخلاق ممّا يعني التنازل وعدم الأهمية لما نشأنا عليه من أخلاق صحيحة طيّبة.
وغالباً ما يحتاج إلى التعاهد الغريب، قليل العُدّة والعدد، ضعيف الجانب وإنْ كثر عدده أو عدّته، فإذا لم تلاحق هؤلاء التعاليم الإسلامية، فيعني ذلك ضياعهم خصوصاً وأنّهم يعانون من أزمات نفسية، تجعلهم مهزوزي الشخصية، قليلي الإرادة، فينصاعون لما يفرض عليهم من شروط، فيكون المقابل للحماية ـ أحياناً ـ هو التخلّي عن الأخلاق والمبادئ، وهو أمر خطيراً جداً يُخشى من عواقبه الوخيمة على المسلمين كافة، فينبغي حُسن الاختيار والاعتصام بأهل الصدق والأمانة والوفاء لو دعت الحاجة الملحة بحكم الظروف إلى ذلك الاختيار.
كما يمكن أن نستشف من الحكمة بعض ما ينفع في هذه المرحلة التي كثر الاغتراب فيها، لتبرز قضايا ما كانت على الساحة بشكلها الواضح، ومن تلك القضايا: الالتزام بقانون بلد اللجوء والإقامة؛ إذ يُفترض قانونياً عند ما يمنح حق الدخول والإقامة لشخص أن يحترم القانون ويُطبّقه مادام في الحدود الدولية للبلد، وبعكسه فيتعرّض للمساءلة أو المعاقبة، فيلاحظ أنّ ما قاله أمير المؤمنين(عليه السلام)، يمكن تطبيقه على هذا المورد الجديد لنتعرّف على أنّ الإنسان ليس له أن يتعدّى المسموح به؛ لأنّ تأشيرة الدخول أو اللجوء أو بطاقة الإقامة ونحو ذلك من الوثائق الرسمية الممنوحة تساوي الذمم التي عبّر بها الإمام(عليه السلام)، فلابدّ لمَن يريد الإفادة منها أن يكون دقيقاً في تعامله معها، فلا يتجاوز ولا يُزوّر ولا يُخالف، ولو لم يرقْ له الحال فيمكنه الاستبدال ببلد آخر، وماعدا الالتزام فيعد ناقصاً للذمّة، وهو ما لا يجوز ولا يسوغ شرعاً وقانوناً وذوقاً[5].
قال ابن أبي الحديد عن هذه الحكمة: «هذه كلمة قالها(عليه السلام)، بعد انقضاء أمر الجمل وحضور قوم من الطلقاء بين يديه؛ ليبايعوه، منهم: مروان بن الحكم، فقال(عليه السلام) له: وماذا أصنع ببيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس؟ يعني بعد قتل عثمان ثمّ أمر بإخراجهم ورفع نفسه عن بيعة أمثالهم، وتكلّم بكلام ذكر فيه ذمام العربية وذمام الإسلام، وذكر أنّ مَن لا دين له فلا ذمام له، ثمّ قال في أثناء الكلام: فاعتصموا بالذّمم في أوتادها، أي: إذا صدرت عن ذوي الدين فمن لا دين له لا عهد له[6].
مجلة بيوت المتقين العدد (75)