قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(اَلاِسْتِغْنَاءُ عَنِ اَلْعُذْرِ أَعَزُّ مِنَ اَلصِّدْقِ بِهِ)[1]
في هذه الحكمة ينبه أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى أمر يكثر استعماله في المجتمع، وهو كثرة الاعتذار مع أن الفرصة كانت مواتية لئلا يحتاج الإنسان إلى ذلك، بل يبقى عزيزاً كريماً لا يشعر بحاجته إلى إصلاح شي تجاوز فيه.
ولو تنبه الإنسان لذلك ووعى هذه الفكرة التي ذكرها أمير المؤمنين(عليه السلام) جيداً فسيساعد ـ حتماً ـ على تقليص حالاتٍ سلبية كثيرة في المجتمع من حواليه منها: خلف الوعد، عدم الصدق، الاحتيال، التجاوز على حق الغير، الاعتداد وعدم احترام الغير، عدم الأمانة وغيرها، مما يكثر حدوثها في مختلف المجتمعات إلّا ما قلَّ حتى عدنا نستغرب له لو سمعنا بأنّ إنساناً في مجتمع ما يلتزم بمواعيده، أو لا يتجاوز على حق غيره، أو يصدق في تعامله، أو لا يحتال أو غير ذلك مما تفتقده بعض المجتمعات، ومنها المجتمع المسلم للأسف مع إننا محصنون حيث بُرمجت حياتنا العملية الخاصة ببرنامج دقيق يضمن لكل الأطراف حقوقها المعنوية والمادية، وذلك من خلال النصوص الشرعية، ولكن لما تراجع البعض نتيجة الإنشداد والإعجاب والإصغاء إلى مَن لا يستحق ذلك فآمنوا بوعود كلامية وهمية، وتركوا ضمانات فعلية حقيقية، فحَلَّ بنا ما نرى اليوم ألا يسمعوا هؤلاء قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا)[2].
وهم يرون بعقولهم وعيونهم صدق وعده سبحانه وتعالى وإنه لا يخلف الميعاد كما ذكر ذلك في كتابه المجيد في آيات كثير منها: (وَعْدَ اللِه لَا يُخْلِفُ اللُه وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[3].
لان كل ما حول الإنسان يؤكد هذه الحقيقية.
فيرى الإنسان المسلم ماذا حلّ ويحلّ بالكافر، والمنحرف عن طريق الله تعالى، كما يرى الإنسان الكافر ماذا يتمّ ويحصل للمسلم الذي حسُن إسلامه، بل ومَن لم يحسن، لأن نِعم الله تعالى، ودفع الله تعالى وتدبيره وتهيئته، كل ذلك مما يعجز عنه عقل عاقل بل وغيره من وسائل العصر الحديث الموصوفة بالدقة. وذلك لأمر بسيط جداً لأنه ترك سرّ ذلك إليه لا يعلمه غيره مهما كان فإننا نشاهد ونسمع ونقرأ عن اختراعات متطورة، سواء أكان في بناء البشرية أم في تدميرها، إلّا أننا علمنا في الوقت ذاته عجز المخترعين عن إيجاد سر الحياة، وعن إعطاء حالة التشابه في مفعولها الروحي؛ لأن ذلك مما اختص الله تعالى به، وهذا كله يدل على عظمته وقدرته مما يدعو إلى الإيمان بالله وعدم الابتعاد عنه.
فالمقصود من هذه الحكمة دعوة الإنسان إلى أن يستغني عن العذر والاعتذار بالالتزام، وعدم التفريط في تصرفاته ومواقفه، لكي يبقى في موقع الرفعة، فيحافظ على عزته وكرامته، وهو أمرٌ يحرص على تحقيقه كل عاقلٍ.
والمعنى للحكمة باختصار: لا تفعل شيئا تعتذر عنه وإن كنت صادقا في العذر، فألا تفعل خير لك وأعز لك من أن تفعل ثم تعتذر وإن كنت صادقا في فعلك[4].
مجلة بيوت المتقين العدد (73)