قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ، وَرَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ ضُرَّهُ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ)[1]
معنى (أَزْرَى بِنَفْسِهِ) أي حَقّرها أو عابها ووضع من حقها، ومعنى (اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ): تبطّنَه وتخلّق به، وعن المنجد: ص391 بتصرفٍ استشعر: لَبِسَ الشعار وهو ما يُلبس تحت الثياب على الجسد مباشرةً، ومعنى (أمّرَ لسانَه): جعله أميراً.
في هذه الحكمة يُحذّر أمير المؤمنين (عليه السلام)، من عدة أمور:
1ـ يحذّر من الطمع، وهو الحرص على الشيء فإن مَن تكن عادته في الحياة الحرص على تحصيل كل شي وَاجَه في سبيل ذلك المهانة والمقت؛ لأن ذلك لا يلائم الآخرين فيُزجر ويُحتقر، والسبب في ذلك عدم سيطرة الإنسان على رغباته.
فينبغي أن يتعوّد المسلم على القناعة والاكتفاء بالميسور والسعي وراء المفقود فيكافح ويحصل عليه بطبيعة الحال وهو أمر مستساغ جداً لأنه مقتضى الطموح.
والمعروف لدى كل عاقل أن الكرامة والمحافظة على الرصيد الاجتماعي أثمن من كل شي، ولذا نلاحظ الدفاع عن ذلك حتى بالنفس والمال العزيز، فهو أمر غريزي فلابد أن لا يضيعه الإنسان نتيجة حرصه على تحصيل ملذة أو شي مراد له.
وقد ورد الكثير من الأخبار عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، في ذم الطمع منها قول الإمام الكاظم (عليه السلام)، وهو ينصح أحد أصحابه: «يا هشام إيّاك والطمع، وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين، فانّ الطمع مفتاح الذلّ، واختلاس العقل، وإخلاق المروّات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم»[2].
2ـ ويحذّر(عليه السلام) من الكشف عن الضر، وهو الشدة والضيق وسوء الحال كما هو معروف؛ لأن ذلك يؤدي إلى الامتهان من قبل الآخرين لاطلاعهم على واقع الحال مما لا يجعله في الدرجة الأولى في الترتيب الاجتماعي سواء أكان المكشوف عنه الضر في البدن أم في المال أم في غيرهما، فأن الإنسان عموماً وبحسب طبيعته يطغى فينسى نفسه، وإن من الممكن جداً أن يصاب بمثل ذلك فيعمد إلى التشفّي إن كان حاقداً، أو يُحدّث الغير ممن يرغب باطلاعهم عادة لأن ذلك من الأسرار الشخصية، فاللازم عدم كشف الضر، والصبر على البلوى مع السير في طريق حَلّها بالسبل الصحيحة؛ لأن الإنسان في الدنيا يُمتحن ليظهر جوهره ويتبين معدنه فيُعرف حاله، لانقسام الناس عادة إلى جيّد ورديء، مؤمن وغير مؤمن، صبور وجزوع، مَن يتجاوز العقبات بسهولة ومَن يتوقف عند أول عقبة. إذا نحن بحاجة إلى اكتشاف المواهب وكشف الحقائق لنتعامل مع كلٍ وفق المناسب واللائق لئلا يضيع حق أحدٍ. قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المجال: «من كشف للناس ضره، -أي: شكى إليهم بؤسه وفقره- فقد رضى بالذل» نهج البلاغة.
وكان(عليه السلام) يقول أيضاً: «لا تشكون إلى أحد، فإنه إن كان عدوا سره، وإن كان صديقا ساءه، وليست مسرة العدو ولا مساءة الصديق بمحمودة»[3].
3ـ ويحذّر(عليه السلام) من: اللسان، وهو آلة النطق والذوق والبلع أو تناول الغذاء، ولا طريق للنطق وإصدار الأصوات المفهومة إلّا من خلاله فكانت المخاوف منه والمحاذير مجتمعة من جرّائه لئلا يفلت عن وثاقه ويكون المحذور. والذي يتشكل بأشكال مختلفة باختلاف الأشخاص والحالات الزمانية والمكانية.
ولذا قد ورد الحث الأكيد الكثير على ضبطه وتقييده بضابطة مراقبة الله تعالى ومراعاة الآخرين وإلّا فيؤدي بصاحبه إلى أصعب المواقف وأحرج الحالات.
فلذا نجده(عليه السلام) يؤكد أن مَن يترك لسانه ينطق بما جرى عليه وبما اشتهى فنفسه عليه هيّنة غير محترمة وإلّا لانعكس ذلك الاحترام والصون على تصرفاته[4].
مجلة بيوت المتقين العدد (72)