قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(كَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ اجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَ)[1].
من المعلوم أن الانسان صحيح التفكير، سويّ الطريقة، يميل نفسياً وسلوكياً في الحياة العملية الى أن يسير بسيرة يكون من ثمارها وصف الناس له انه مؤدب، مهذب، ملتزم، موزون، وغير ذلك من الصفات التي تجلب له المدح والثناء والقبول بين النّاس والارتياح الذي لا يمكن صدوره من الجميع إلّا اذا تحققت في الفرد الممدوح شرائط السيرة الصحيحة، والتعامل المحافظ على الخطوط العامة لقواعد المجاملات والآداب الاجتماعية، وهو أمر ليس بالسهل ـ غالباً بل دائماً ـ لما هو معروف من تعدد الاهواء وتشتّتها وعدم اتفاقها على أمر واحد فقد يرضى شخص بالتصرف المعين في الوقت الذي يغضب منه آخر، أو قد يثني إنسان على قولٍ معين في حال أن إنساناً آخر ينتقده بما يجعل عملية إرضاء الجميع عملية غير سهلة كما في الحكمة المعروفة (رَضِى النَّاس غَايَةٌ لَا تُدرك)، فكان دور هذا القول لأمير المؤمنين (عليه السلام)، هو رسم طريق واضح لو سار عليه الانسان في حياته العملية لأوصله الى الهدف المنشود الذي يسعى اليه ويميل نحوه بحسب طبيعته القويمة وفطرته الأولى وان (الإنسان مدني بالطبع)، ومعالم هذا الطريق وأوصافه قد اختصرها أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن يجعل الانسان نفسه مقياسا لمعرفة حالة القبول أو الرفض لدى الآخرين لما يصدر منه شخصياً من أقوال أو أفعال، وذلك بان ما يجده الإنسان مقبولاً وسائغاً من الغير عنده فيعرف انه مقبول وسائغ منه، والعكس صحيح أيضاً، وان ما ينتقده الإنسان من الأقوال والأفعال ويعتبره أمراً مستهجنا من الغير فعليه أن يتجنبه ويبتعد عنه ولا يتورط به لأنه يشكّل علامة سلبية عليه في أذهان الآخرين.
ولو التزم الإنسان بهذا المقياس فجعله ميزاناً يزن به أقواله وأفعاله، فما يرضاه من الناس لو صدر منهم بحقه يفعله، وما يرفضه منهم بحقه يتركه ليضمن بالتالي انه مؤدِّبٌ لنفسه، وكفى بها تقييما يعتز به بل ويفخر به العقلاء المدركون لأحوال التعامل الاجتماعي وما يلزم في ذلك المضمار.
اذن فالدعوة الى أن يلتزم الإنسان تأديب نفسه وتهذيبها والسيطرة عليها من خلال الابتعاد عن كل ما يكرهه ويتجنبه وينتقده من أقوال الغير وأفعاله بما يجعل القاعدة متوازنة؛ إذ الناس بحسب الخلقة والطبيعة الإنسانية متساوون في الانسجام مع أمورٍ والابتعاد عن أخرى فمن الممكن جداً إدراك المقبول والمرفوض اجتماعياً ليتجنبه الإنسان ليكون بذلك مصدر راحة للآخرين.
فالواجب على كلّ عاقل أن يؤدّب نفسه بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، فكما أنّ تمام الشجرة بالثمرة، فتمام السعادة بمكارم الأخلاق ومحاسنها، ومعلوم أنّ تهذيب الأخلاق ورعاية الآداب علم شريف، بل يعدّ من أشرف العلوم.
قال بعض البلغاء في الاهتمام بما هو الأهمّ من إصلاح أمر النفس على تقديم البدن وتقديم طبّها وعلاجها عليه: بأنّ الإنسان إذا كان قد علم أنّه مركّب من شيئين: أحدهما أشرف وهو النفس ، والآخر أدنى وهو الجسم، فاتّخذ للدنيء منها أطبّاء يعالجونه من أمراضه التي تعروه، ويواظبون عليه بأقواته التي تغذوه، ويتعاهدونه بأدويته التي تنقّيه ، وترك أن يفعل بالشيء الشريف مثل ذلك، فقد أساء الاختيار عن بيّنة، وأتى بالغلط عن بصيرة، وأطبّاء هذه النفس هم الأفاضل العلماء، وأقواتها الغاذية هي الآداب المأخوذة عنهم، وأدويتهم المنقّية هي النواهي والمواعظ المسموعة منهم.
ومن الواضح أنّ من يدّعي علم الأشياء ومعرفتها، وهو لا يعرف نفسه ولم يهذّبها، فمثله مثل من يطعم الناس وهو جائع، ويداويهم وهو عليل، ويهديهم طريقاً وهو لا يدري طريقه، فلا بدّ أن يبدأ الإنسان بنفسه يكون إماماً لها ثمّ ينصب نفسه إماماً لغيره[2].
مجلة بيوت المتقين العدد (67)