نظر أولياء الله الى الاعمال

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

(إنَّ أولياءَ الله ِ هُمُ الَّذينَ نَظَروا إلى باطِنِ الدُّنيا إذا نَظَرَ النّاسُ إلى ظاهِرِها، وَاشتَغَلوا بِآجِلِها إذَا اشتَغَلَ النّاسُ بِعاجِلِها، فَأَماتوا مِنها ما خَشوا أن يُميتَهُم، وتَرَكوا مِنها ما عَلِموا أنّهُ سَيَترُكُهُم، ورَأَوُا استِكثارَ غَيرِهِم مِنهَا استِقلالاً، ودَرَكَهُم لَها فَوتا، أعداءُ ما سالَمَ النّاسُ، وسِلمُ ما عادَى النّاسُ، بِهِم عُلِمَ الكِتابُ وبِهِ عَلِموا، وبِهِم قامَ الكِتابُ وبِهِ قاموا، لا يَرَونَ مَرجُوّا فَوقَ ما يَرجونَ، ولا مَخوفا فَوقَ ما يَخافونَ)[1].

الدعوة الى عدم ادّعاء ما لا تدل عليه تصرفات الإنسان ـ فعلاً أو قولاً ـ كونها مما تكشف ليظهر زيفها، فيلزم العاقل أن يحدد هدفه، ويعمل على أساس ذلك بدون تلوين، فان اختار القُرب من الله تعالى فعليه أن يستعدّ للسير التكاملي في ذلك الطريق، وإلّا فلا يدّعي ما ليس فيه، ولهذا السير شروط يلزمه تطبيقها ليكون من القريبين الذين هم أولياؤه تعالى، فإنهم لم يحصلوا على هذا الوصف إلّا بعد السعي والجهد، فلا بد من الإفادة من تجربتهم لتحصيل ما يرغب الإنسان به، كما عليه إدراك حقيقة اقتضاء ذلك، الوعي والنشاط، لما يحف ذلك الطريق من معرقلات، تتطلب منه الحزم في المعالجة، والتصميم على الاكمال؛ كونه يسير ـ أحياناً ـ عكس ما يسير عليه عامة الناس، و لا يعالج الموقف إلّا بالثبات الناشئ عن الايمان بصواب النهج، وتتمثل الشروط بأن يكون مم لا يغتّر بحال الدنيا من خلال:

أـ الاطمئنان بما تُبديه من مسالمةٍ وودٍّ لأبنائها، بل يتذكر غدرها وسرعة انقلابها المفاجئ، فيما يراه يومياً مع غيره، ممن صافتهم الود، ثم انقلبت مدبرة عنهم، كي لا تتكرر الحالة معه، وإنه في حذره يُعدُّ متميزاً عن الناس؛ بفطنته لما انطلى عليهم، فيسلم مما سقطوا فيه.

ب ـ الاشتغال بما يهيئ له مُستقَرَّاً في عالم ما بعدها(الدنيا)؛ حيث من المعلوم عدم اقتصار الحياة على الدنيوية المادية، بل هناك الأخروية الروحية، فلا بد من الاستعداد المناسب لها، ولا سيما وأنها ذات متطلبات عديدة، لا يكفي قليل الوقت لتهيئته، وانه في استعداده المبكر يكون ممن أخذ احتياطه الكافي لما يطرأ من شواغل، تصرفه عن ذلك ـ ولو مؤقتاً ـ لئلا يلوم نفسه في حالٍ لا ينفعه، فتفوت عليه فرصة الخلاص والنجاة.

ت ـ السيطرة على منافذ الانفلات لديه، المتمثلة بغرائزه، التي تثيره نحو الغضب والشهوة المفرِطَين، بما يوقعه في مهاوي مختلفة، ربما تؤدي به الى النار، وأنه إذا سيطر على ذلك، يكون قد فاز بتغلبه على التيار الجارف المؤدي الى فقدانه الرصيد الصالح مما أنجزه في دنياه، فعليه المبادرة الى اتخاذ القرار بالمقاطعة قبل أن يفاجئ يوماً ما بالإدبار والتحوّل، وهذا لا يعني إطلاقاً الزهد التام في الدنيا، ليستصعبه البعض، بقدر ما يعني التوازن في استخدام الغريزة، والاستجابة لها، وإلّا فالإنذار  بالفشل والمرض والفقر والتشرد وغيرها عديد، ما لا يضع حداً لإملاءاتها وتحكماتها، وإنّ من أوضح الشواهد الحية ما يعانيه كثير من الإصابة بالإيدز، والاغتراب في سجن ـ مغلق أو مفتوح ـ والحرمان من فرص الترقي العلمي أو الوظيفي.  

ث ـ التأكد من حقيقة تفاهة ما في الدنيا، بالكم والكيف، فلا العدد يناسب الطموح، كما أنّ الطريقة عادية جداً، والانسان عالي الهمة يرفض ذلك قطعاً، حيث يجد معتوهاً يحير بالمال، ومخترماً يحير هو الآخر بالمال لكن بتأمين أيسر المستلزمات الحياتية لا بصرفه، كما يجد ميل الدنيا لصغير فتعطيه ما لا يستحق، بينما هي تميل عن كبير فتنزع عنه ما يستحق، والشواهد المتحركة يومياً غير قليلة؛ فكم من عزيز أو غني أو حاكمٍ، انقلب سريعاً الى ذليلٍ وفقيرٍ ومحكومٍ؟ فعليه استقلال كثير الدنيا، كونها منحت الأدنى منه الأكثر من ذلك، فيعلم بذلك أن ما فات أعظم، فلماذا السعي وهو ليس بمثمر؟! وإنّ هذا كله لمما يُشنج العلاقة، فتفتر ثم تنقطع، وهذه مؤشرات العداوة، وإنّ الوصول الى هذه المرتبة مما يتطلب قوةً نفسيةً عاليةً؛ كونه لا يُساير الناس فيما يتجهون نحوه، فيكثر ناقدوه.

ج ـ التفقه في الاحكام الشرعية كافة، للتعلم والتطبيق، فينعكس فكرياً وسلوكياً على السيرة الذاتية، والمنحنى البياني الواضح لما ينطوي عليه، حتى يكون مرآة صافيةً لما التزمه من مبادئ وعقائد حقه، وبهذا يكون تحركه حاكياً، وممارساته عاكسة، فيصبح سفيراً متنقلاً للفكر الذي ينتمي اليه، وناطقاً عن المنهج الذي تعلق به روحياً قبل أن ينتمي اليه جسدياً، وهو ما يستدعي الجدّ والمثابرة؛ إذ يهدف الى ما لا يهدف له عاديّ الناس، فيكون ممن وثِقَ بما لا يراه سواه[2].

مجلة بيوت المتقين العدد (64)

 


[1] نهج البلاغة: 432.

[2] أخلاق الامام علي (عليه السلام): السيد صادق الخرسان، ج2، ص52 وما بعدها.