قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَج بالإحسان إلَيْهِ، وَمَغْرور بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَمَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ! وَمَا ابْتَلَى اللهُ أَحَداً بِمِثْلِ الاْمْلاَءِ لَهُ)[1]
من المعلوم أنّ الله تعالى كريم لا بخل في ساحته عزّ وجلّ، ينعم على مَنْ يعرفه ويّوحده، وعلى مَنْ لا يعرفه بل وينكر وجوده، إلّا أن ذلك لا يعني في حال من الأحوال تساوي الحالين فانه يفيض بنعمه الواسعة على مخلوقاته كونه المنعم والخالق والغني المطلق عن أي أحد مهما كان، والقوي والجبار والمهيمن، والذي تسع رحمته كل شيء، والذي أوجد الأشياء من العدم، مما يعني أن الجميع خَلْقُهُ، ولم يفرّق بينهم سوى أن المخلوقين انقسموا الى قسمين:
قسم آمن بخالقه وموجده ومدبره، فعَبَدَهُ ونزَّهه عن الشريك والوالد والولد والصاحب، ونفى عنه الاحتياج.
وقسم آخر انحرف وابتعد عن الصواب، ولم يذق حلاوة الإيمان والتوحيد.
وكل منهما لم تتدخل القوة في اختياره، وإنما قد وضّح له المسار وحُدّد له الطريق الموصل الى الخير، فكان توجهه بمحض إرادته من دون ما إلجاء أو جبر، ولكن الطبيعي سيكون القسم الأول أقرب وأفضل حالاً من القسم الآخر، ولذا حصل المطيعون على امتيازات، كما حُرِمَ العاصون من بلوغ درجات لا يصلون إليها إلّا بالإيمان والتوحيد والتقوى كما هو الحال في القسم الأول.
ولكن هذا لا يعني حرمان القسم الآخر من جميع الاستحقاقات الطبيعية لهم كمخلوقين، بل لهم ذلك، ثم تأتي مرحلة الاختبار، ليُكشف من خلال ذلك مدى الاعتبار والاتعاظ إذ ما من شيء خلقه تعالى إلّا وفيه موعظة وعبرة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ)[2].
فإذا استفاد أحد من هذا واجتاز الاختبار وكانت النتيجة الاهتداء والإيمان فيكون له ما للقسم الأول، واما لو لم يستفد بل تمادى على أساس القوة والاغترار ببعض القابليات التي لم يلتفت الى أنها مخلوقة لله تعالى ايضاً، فسوف يُمهل ويُؤخّر عسى أن يرعوي ويرجع الى صوابه ورشده، وإلّا فمصيره النار وساءت مصيرا، وقد أدى بنفسه هو الى هذا المصير ومن دون ظلم أو انحياز ضده أو جناية من أحد عليه؛ لأنه تعالى غني عن العالمين لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي.
بل النفع والضرر في دائرة العبد فقط، وسيندم ويشعر وقتئذ بأنه جنى على نفسه بذلك الانخداع بتوالي الفرص والذي قد ظن أن ذلك الإحسان وتتابع النِعم عليه يعني انه على الطريق الصحيح حسباناً منه انه لو لم يكن كذلك لما تواصلت النعم عليه لكنه غفل عن انه تعالى قد حدد الطريق لكل أحد وبيّن المستقيم من المعوج، ثم أوكل الأمر في الاختيار والسلوك الى إرادة العبد من دون تأثير أو ضغط.
ويعرف أيضاً أن عدم أخذه بالعذاب وعدم تعجيل العقوبة له على المعاصي إنما هو ستر من الله تعالى الخالق العظيم الرؤوف الرحيم اللطيف الحنّان المنّان، وليس عجزاً عن إيقاع العذاب وبالشكل المناسب حسب ما يشاؤه تعالى.
فالدعوة إذن من خلال هذا البيان الى أن يراقب العبد ربّه، ويستشعر وجوده، ويؤمن بقدرته، وانه مطلّع على كل شيء حتى خطرات القلب ولحظات العين وما يجول من أفكار ولو لم يبدها لأحد، فعندئذ يكون العبد على جانب كبير من التقوى، والورع عن محارم الله عزّ وجلّ بما يوفر له حالة الاستقامة بأجلى صورها وأبهى مظاهرها، فينعم بها ليصل الى رضوان الله وما فيه خير الدنيا والاخرة.
فلابد للعاقل حينئذٍ من أن لا يغتر بإقبال الدنيا عليه، وكونه محظوظاً إذ من الممكن أن يكون ذلك اختباراً فلا بُدَّ من أن متوازناً محافظاً على القواعد الصحيحة التي تضمن له عدم المساءلة أو المحاسبة.
مجلة بيوت المتقين العدد (62)