أكرم البلاد

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

(ليسَ بَلَدٌ بأحَقَّ بِكَ مِن بَلَدٍ، خَيرُ البِلادِ ما حَمَلَكَ)[1]

هذه الحكمة لها أثرها البالغ في تشجيع الأيدي العاملة، والطاقات الشابة، والقدرات المعطّلة المهمَلة في بلادهم على السعي وراء العمل، والكفاح في الحياة بما يُوفر فرصة عمل توفر لقمة العيش الكريم، وتهيئ مجالاً للتوسع، والترقي، ورفع المستوى المعاشي، والاقتصادي، والاجتماعي، وتحسين الوضع العائلي بما يجعله مرفِّها على نفسه، وعلى عياله، ليُمَكّنهم من العيش الرغيد، أو الذي يبلِّع الحاجة أو يسدها، فقد يواجه البعض ممن يرغب بالهجرة للعمل بمعارضة، ومقاومة على أساس أن البلد أحوج ما تكون الى أبنائها، وليس من الوفاء أن تربي ويستفيد غيرها، ومما يردده البعض من المنظِّرين الذين لا يحَسُّون بألآم الآخرين، ولا يواجهون ما يجعلهم يفكرون فيما هو أصلح، وأنفع، وأقوم لحياة مجاميع كثيرة من الناس ممن تشكو العوز، والفقر والحاجة مع إمكان أن تعمل شيئاً فتكون الفائدة مزدوجة لهم ولغيرها ولغيرهم.

وقد عالج أمير المؤمنين (عليه السلام)، ذلك بأنَّ على الإنسان أن يبحث عن فرصة للعمل، ومجال للإبداع، ولو في بلد آخر غير بلده، ولكن ـ طبعاً ـ مع الحفاظ على انتمائه، وهويته، ووطنيته، لأن ذلك مما يجب أن لا يتناساه أحد، فيمكن الجمع بين الوجهتين ـ الحفاظ على انتمائه وهويته، والعمل في بلاد أخر ـ  بأن يعمل في بلد آخر لو لم يمكنه ذلك في بلده، ولكنه يبقى وفياً لبلده بطاقاته، بخبراته، باستثمار أمواله، بمشاريعه الإنمائية سواء المستثمرة أو الخيرية، مما يبقي الصلة، ويقوي الروابط، ولا يجعل الإنسان يشعر بعمق الغربة، والوحشة في داخل نفسه، بل يكون متجاوباً مع الحياة، لم يستسلم للأمر الواقع الذي واجهه في بلده بل تماشى معه وبذل جهداً ولم يفلح حتى بلغ به الامر الى الاغتراب من اجل العمل، والعيش بكرامة لئلا تموت أو تستغل جهوده، أو أفكاره، أو طاقاته، للأعداء ولو المبرقعين الذين يظهرون بشكلهم غير المحبب بل بمظهر الود، والانكسار على الطاقات المهدورة، لكنها تستغل ذلك في سبيل أغراض غير إنسانية، وغير شريفة فتكون الواقعة شديدة للسبب ذاته المزدوج مما يحتم أن نفتح المجال، ولا نعرقل مشاريعهم للمستقبل، وتخطيطهم للحياة بما يعمرها، وبما ينعشهم، ويجعلهم ينعمون كأناس لهم آمالهم وتطلّعاتهم.

فلابد من استيعاب الحكمة جيداً للمساعدة في تقليل البطالة في العالم، والمشاركة في تحريك عدد من البلدان المحتاجة إلى الاعمار، أو التقنيات الخدمية في شؤون الحياة مما يحتاج فيها الى عنصر الإنسان المفكر المخطط، المهندس، العامل، المراقب، ... وبذلك ننعش القلوب، ونحقق الآمال.

ويمكننا ان نستشف من هذه الحكمة أنه (عليه السلام) قد سبق القائلين بالنظرية الأممية التي كان يُروج لها، إلّا أنه (عليه السلام)، عرضها بالشكل المتوازن الباقي ما بقيت الدنيا لأنه قائم على الالتزام بتعاليم الشريعة الإسلامية، لا تأسيس خط آخر مقابل خط الشريعة فلذا استمر هذا ودُحِر ذاك[2].  

مجلة بيوت المتقين العدد (61)

 


[1] نهج البلاغة: الحكمة 242.

[2] أخلاق الإمام علي (عليه السلام): السيد الخرسان، ج1، ص283 بتصرفٍ.