حلمه وعفوه (عليه السلام) عن أعدائه

لقد كان الإمام أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) أحلم الناس عن ذَنب، وأصفحَهم عن مسيء، ولهذه الصفة أمثلة كثيرة، ونحن ذاكرون بعض النماذج من هذه المواقف النبيلة.

  ففي يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم، وكان أعدى الناس له، وأشدهم بغضاً، فصفح عنه.

  وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: (قد أَتَاكم الوغدُ اللئيمُ عليُّ بنُ أَبي طالبٍ)، وكان عليٌّ يقول: (ما زالَ الزبيرُ رَجُلاً منا أَهل البيتِ، حتى شبَّ عبدُ اللهِ)، فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيراً، فصفح عنه وقال: (اذهب فلا أرينك)، ولم يزده على ذلك.

  وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة - وكان له عدواً -، فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.

  أما ما كان من أمر عائشة، فلما ظفر بها، أكرمها، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس، عمَّمَهنّ بالعمائم، وقلّدهنّ بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق، ذكرته بما لا يجوز أن يُذكَر به وتأففت وقالت: (هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي)، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: «إنما نحن نسوة».

وحاربه أهل البصرة وضربُوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: «ألاَ لا يُتبَع مُولٍّ، ولا يُجهزُ على جريح، ولا يُقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن»[1]، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى ألا الصفح والعفو، وتمثّل سنّةَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة، فإنه عفا، والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تُنسَ.

  ولمّا مَلَكَ عسكر معاوية عليه الماء، وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له [لمعاوية]:

(اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً)[2].

  [وعندما] سألهم الإمام علي (عليه السلام)، وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء فقالوا: (لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان)؛ فلما رأى (عليه السلام) أنه الموتُ لا محالة تقدم بأصحابه، وحمل على عسكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذَريع سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفَلاة لا ماء لهم فقال له أصحابه وشيعته:

  (امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تَسقِهم منه قطرة واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي، فلا حاجة لك إلى الحرب).

فقال: (لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، أَفسحوا لهم عن بعض الشَّريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك).

  فهذه [المواقف] إن نَسبتها إلى الحلم والصفح، فناهيك بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلى الدين والورع، فأخلِقْ بمثلها أن تصدر عن مثله (عليه السلام)[3].

مجلة بيوت المتقين العدد (57)

 


[1] بحار الأنوار: ج41 ص132.

[2] بحار الأنوار: ج41 ص145.

[3] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين: ج1، ص335.