قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِه)[1].
يتناول أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه المقولة الدعوة إلى عدم الائتمان إلى الدنيا، وعدم الركون إليها، وعدم الانخداع بها، لأنها تُضفي على الإنسان ما ليس فيه، وتعطيه ما ليس له، فقد يغترّ البعض بذلك ويحسبه مما فيه، ومما له، وهذا ما يورطه أحياناً في مزالق حياته، سواء على صعيد العلاقة مع الله سبحانه وتعالى أم مع العباد، وقد كان من وراء ذلك الدنيا وما زيّنته للغافل عنها أو المغتر بها، بينما أن الواقع على خلاف ذلك كما قال أبو العتاهية:
إنما الدنيا هباتٌ وعــوارٍ مستردة
شدةٌ بعد رخـاءٍ ورخاءٌ بعد شدة[2]
فهي ـ كما خَبَرهَا المجربون ـ تُظهر صوراً مزيفة لا تعويل عليها، إذ لا واقع لها في الحقيقة، لكونها مما نسجته الأهواء فصدقته الأوهام، فلابد للعاقل الكيس أن لا ينسى مهما كان حجمه واعتباره، ولا يصدق المديح والثناء الذي يطرق اسماعه من الاخرين، ولا ينزعج من الذم والهجاء الذي يصدر ضده، لكونهما المدح والذم غير واقعيين، فهو أدرى بنفسهِ من غيرهِ كما قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[3].
والغير مهما أقترب منه فلا يعرف حقيقته وواقعه كما يتيقن بواقعه هو.
وفي هذه الحكمة عبرة لمن يريد معرفة تقلبات الدنيا وسرعة انتقالها من حالٍ إلى حال، فهي ما إن صافحت أحداً حتى صفعته، وما إن أضحكته حتى أبكته، وما إن بحث عن شيءٍ من خلالها فحصل على بعضه حتى سلبته ما لديه، فكم من متطلع وطالب للغنى بوسيلةٍ غير مشروعة حتى تحول إلى مظهرٍ للفقر والبؤس لشدة قسوتها عليه، فلا يستطيع أن يبقي ما كان لديه، وهكذا مَنْ يتطلع للشهرة فإذا به بحاجة إلى تعريفه بين معارفه.
وبعبارةٍ مختصرةٍ: إذا أقبلت الدنيا ووافت الشخص، نسب الناس إليه مكارم ومحاسن لم يفعلها وإنما هي أفعال ومحاسن الغير، وإذا ولّت وأدبرت عنه جرّدوه عن محاسنهِ ونسبوها لغيره.
واستعارة أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) لفظ الإعارة، وهي في اللغة: ما تعطيه غيرك على أن يعيده إليك[4]، ليبيّن حال الدنيا، فما تعطيه الدنيا للأشخاص لا يبقى بل لابد يوم من الأيام ان يؤخذ ويسلب من الآخذ، لأنه على سبيل الإعارة وما كان كذلك فلابد ان يُعاد، والاشنع هنا عندما يعاد لا يعاد وحده، وانما يؤخذ معه ما كان يملكه[5].
مجلة بيوت المتقين العدد (56)