قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
( يَا ابْنَ آدَمَ الرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُه، ورِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِه أَتَاكَ، فَلَا تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَى هَمِّ يَوْمِكَ، كَفَاكَ كُلُّ يَوْمٍ عَلَى مَا فِيه، فَإِنْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى سَيُؤْتِيكَ فِي كُلِّ غَدٍ جَدِيدٍ مَا قَسَمَ لَكَ، وإِنْ لَمْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ، فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ فِيمَا لَيْسَ لَكَ، ولَنْ يَسْبِقَكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ، ولَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْه غَالِبٌ، ولَنْ يُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَكَ)[1].
في هذه الحكمة الشريفة مضامين عالية جداً وعلاجات لحالات اقتصادية يعاني منها السوق العالمي عامة ويحاول الخبراء تقديم دراسات حولها من اجل السيطرة على الحاجة البشرية ولسد الاحتياج ولمواجهة التضخم السكاني وازدياد البطالة و.. و... مما كثر تداوله على الساحة. فإننا نجد الإمام (عليه السلام) يبدأ مع الإنسان بداية مُطَمْئِنَة يبحث عنها كل واحد وهي ضمان وصول الرزق إليه الذي هو: كل ما ينتفع به الإنسان من لوازم حياتية ضرورية لبقائه كالأكل والشرب والدواء والملبس والسكن والمواصلات و.. و...
ثم أكد أنّ ما لا ينتبه إليه الإنسان من موارد دخل ومصادر توفّر له تلك اللوازم سوف يأتيه بكل تأكيد؛ لأن الله تعالى تكفّل بذلك للمخلوقين، فلم يكن لتَنبّه الإنسان دورٌ في وصول الرزق إليه بل يصله حتماً.
وبناءاً على ذلك ( الضمان ) فلا داعي للقلق ولا للتحسب للمستقبل وما يحمله من مفاجآت وازدياد في السكان أو البطالة عن العمل؛ إذ المدة التي يعيشها الإنسان غير معلومة فإذا أراد استباق الأحداث والزمن فكم يخزن؟ والى متى يبقى على تلك الحال؟ وفي أي مكان يبحث أو يطلب؟... وغيرها من الأسئلة التي تتوقف الإجابة الصحيحة عليها على تحديد أمد بقاء الإنسان في الحياة، وهو مجهول.
إذن لا موجب لأن يهتم الفرد - كبيراً أم صغيراً، رجلاً أم امرأة، مكفولا أم غير مكفول - ويفكر فيما يأتي لأنه غير مضمون له البقاء حتى ذلك المستقبل.
ثم ذكر (عليه السلام) مسألة مهمة وهي إن كل يوم يعيشه الإنسان يحمل معه عددا من القضايا التي تشغل وقت الإنسان وتنسيه حرصه على ممارسة طبيعته البشرية، مضافا الى أن ذلك اليوم قد حُدّد للإنسان فيه مقدار معين يكفيه فلماذا استباق الزمن.
ويترتب على جميع ذلك أن السنة بما أنها تعني المدة الطويلة التي يفكر الإنسان في ضمان رزقه فيها إن كان مقررا له البقاء فيها في الحياة فالحالة الطبيعية للضمان الإلهي ستتكرر يوميا وبشكل تلقائي من دون تدخل من العبد، وأما إذا لم تكن السنة من ضمن المقرر للبقاء فيه فلماذا يهتمّ الإنسان لشيء قد لا يبلغه، ويضيف إليه قلقا بما يجعله مستفز الأعصاب دائماً.
ثم بيّن (عليه السلام) حقيقةً لتطمئن إليها النفوس وليخفّف بها عن الإنسان الذى تضغط عليه عوامل نفسية - داخلية - بحسب طبيعته، وهو أن ما قَسَمَهُ الله تعالى من الرزق لمخلوقٍ لا يكون لغيره أبداً ومهما كان الجهد المبذول لاستخلاصه من المقسوم له - والشواهد على ذلك كثيرة - بحيث لا يحول البعد المكاني أو الزماني عن الوصول في الوقت المقرر، فإذا تيقن الإنسان المؤمن بذلك، عرف أن المستعجل لا يحصل فوق المقدّر له، والبطيء لا يذهب عنه شيء إلى غيره، نعم على الإنسان أن يبذل الجهد المناسب ومجال العمل الذي يكون رزقه منه لأننا نعرف أن لا وسيلة لإمداد المخلوقين بالرزق بشكل محسوس معاين إلاّ بالوسائل الاعتيادية من الأعمال والمهارات التي ينتجها الإنسان بمختلف أنحائها المشروعة.
فاللازم على الإنسان أن يؤمن بأن الله تعالى خَلَقَهُ وتكفّل برزقه وجعل مفتاح ذلك عند العبد بأن يسعى في سبيل الحياة بما يديم النفع للآخرين، ويحصل بالمقابل على ما يسدّ به حاجته بما يتناسب والزمان أو المكان فقد يكون الرزق بالمال (النقدي) أو العيني من الاعواض والأعيان.
ومن الجدير بالذكر أنه (عليه السلام) أهتمَّ بهذا الجانب معرفةً منه بأنه جانب يكثر الاحتياج إلى استيضاحه لأنه يتصل ببقاء الإنسان في الحياة الذي يسعى دائماً إليه[2].
مجلة بيوت المتقين العدد (50)