الركون إلى الدنيا

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

(الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جهلٌ، والتقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبْنٌ، والطمأنينة إلى كل أحدٍ قبل الاختبار عجز)

  الدعوة إلى الالتزام بثلاثة أمور والعمل في الحياة عليها مع استيعابها لتتركّز في القلب، فيكون الالتزام بها والعمل على وفقها نابعا من الصميم، مما يعني التصميم والعزم ليكون مترسِّخا يساير الإنسان في مراحل حياته كافة فلا يغترّ بحالة فيضيّع واحداً من هذه الثلاثة ويخسر ولا ينفع الندم.

 الأمر الأول: الحذر من الدنيا؛ لأن الشواهد على زوالها وفنائها وعدم استدامتها لأحد كثيرة جداً متسلسلة بحسب الزمان ومتعددة بحسب المكان، فلو أَمِنَ منها الإنسان فإنما يكشف ذلك عن جهله وعدم معرفته؛ لأن الواعي مَنْ يعي التجارب ويتعظ بها لئلا يحدث الشيء ذاته معه، أما إذا أسس بنياناً وشاده على أساس الثقة بالدنيا وأنها تدوم ولا تتغير مع الشخص الواحد مرات ومرات، فذاك هو الجاهل.

 الأمر الثاني: زياد القدرة في العمل مع توافر الضمانات الكافية للمواصلة من الحوافز والتشجيع وما إلى ذلك مما يُعَبَّر عنه الثواب الذي هو (الجزاء على الأعمال خيرها وشرها، وأكثر استعماله في الخير) (المنجد: ص75) بما يوفر الروح الحماسية لدى العامل ليستمر في العمل والإنتاج ويتواصل بإبداع وتفوق، فإذا كان كل ذلك الثواب مضموناً ولم يعمل الإنسان فهو ما يدل على ضعف رأيه وعدم معرفته وانعدام الفكر الصائب لديه، لأن كل ذلك من المحفزات، والتقاعس عنها يعني الخسارة الناتجة عن الانخداع بأمر موهوم. ونجد أن الله تعالى أعد للمؤمنين به ثواباً جزيلاً - في الدنيا والآخرة - بمختلف الأشكال المناسبة لحالة المؤمن أو المؤمنة إذا تخلّى عن الاهتمام بما يفيض عليه ذلك الثواب، فإنما يشكّل عليه علامة سلبية لا تخدمه؛ لأنه ترك المضمون وتابَعَ الموهوم.

الأمر الثالث: لزوم التريث في إقامة العلاقات الاجتماعية على مختلف المستويات: الفردية، الجماعية، العائلية، العملية؛ لأن التعجُّل في ذلك يؤدي في كثير من حالاته إلى الندم واكتشاف المساوئ في الطرف الآخر والتي قد تسيء إلى سمعة الإنسان نفسه، ولا يعني هذا التخلّي عن قاعدة (حُسن الظن) بل يصلح أن يكون تأكيداً لها ودعماً من جهة مُسانِدَة إذ لو انساق الإنسان وراء ظنه الذي يعتبره حسناً لأمكن حدوث مشكلات كان يمكنه تفاديها. فاللازم إخضاع الطرف المقابل للفحص والاختبار بالوسائل الطبيعية التي تستظهر سرائره وما ينطوي عليه من روحية وعقلية لهما كبير الأثر في تكوين شخصيته.

  فإذا لم يكن ذلك وأقبل الإنسان متلهفاً وراء إقامة المزيد من العلاقات الثنائية أو الأكثر على مختلف المجالات لأصطدم بالواقع المؤلم فيعرف انه كان عاجزا عن إجراء العمل الطبيعي وهو دراسته تجريبيا بما يكشف قناع المجاملات وقضايا التعارف الاجتماعي.

 فالدعوة إلى الالتزام بالحذر من الدنيا بأن يتوازن في الإقبال إليها والإدبار عنها نحو الآخرة التي هي الأبقى، وبالمثابرة والسعي لأن وراء ذلك الثواب المضمون، وبالاختبار قبل اختيار كل أحد، عسى أن تتوفر الحماية الكافية للإنسان ليعيش خلوا من المكدرات والمنغصات.

مجلة بيوت المتقين العدد (49)