عن الحسن العسكري، عن أبيه، عن محمّد بن عليّ التقي (عليه السلام)، قال: لمّا اتّسق الأمر للرضا (عليه السلام) وطفق الناس يتذاكرون ذلك، قال للمأمون بعضُ المبغضين: يا أمير المؤمنين...قد أعنتَ على نفسكَ وأهلكَ، وجئتَ بهذا الساحر ابن الساحر، وقد كان خاملاً فأظهرته، ووضيعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكّرت به، ومستخفّاً فنوهّت به، قد ملأ الدنيا مخرقةً وتزويقاً بهذا المطر الوارد بدعائه، فما أخوفنا أن يخرج هذا الأمر من ولد العبّاس إلى ولد عليّ، ما أخوفنا من أن يتوصّل بالسحر إلى إزالة نعمتك والوثوب سراعاً إلى مملكتك! هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل ما جنيت؟
قال المأمون: جئنا بهذا الرجل وأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاءه إلينا، ويعترف بالخلافة والملك لنا، وليعتقد المقرّون به أنّه ليس ممّا ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه، فالآن إذ قد فعلناه، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، لكنّا نحتاج أن نضع منه قليلا، حتّى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحقّ هذا الأمر، ثمّ ندبّر فيه.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، خوّلني مجادلته، فإنّي أُفحمه وأصحابه، وأضع من قدره، ولولا هيبتك في صدري لأنزلته منزلته، وبيّنت للناس قصوره عمّا رشّحته له.
فقال المأمون: ما شيء أحبّ إليّ من هذا.
قال: فاجمع جماعة من وجوه أهل مملكتك، من القُوّاد والقضاة وجملة الفقهاء، لأُبيّن نقصه بحضرتهم، فيكون أخذاً له عن محلّه الذي أحللته فيه على علم منهم بصواب فعلك.
قال: فجمع الخلق الفضلاء من رعيّته في مجلس واحد واسع قعد لهم فيه، وأقعد الرضا (عليه السلام) بين يديه في مرتبته التي جعلها له، فانتدب هذا الحاجب المتضمّن للوضع من الرضا (عليه السلام)
وقال: إنّ الناس قد أخبروا عنك الحكايات، وأسرفوا في وصفك، بما أرى أنّك إن وقفت عليه برئت إلى الله منه.
فأوّل ذلك أنّك دعوت الله تعالى في المطر المعتاد مجيئه، فجعلوا ذلك معجزة، أوجبوا لك بها آية، وأنّه لا نظير لك في الدنيا، وهذا أمير المؤمنين - أدام الله تعالى مملكته - لا يوازن بأحد إلاّ رجح عليه، وقد أحلّك المحلّ الذي قد عرفت، وليس من حقّه عليك أن تسوّغ الكذّابين لك وعليه ما يكذّبونه.
فقال الرضا (عليه السلام): ما أدفع عباد الله عن التحدّث بنعم الله عليّ، وأمّا ذكرك صاحبك الذي أحلّني ما أحلّني، فما أحلّني إلاّ المحلّ الذي أحلّه ملك مصر يوسف الصدّيق (عليه السلام)، فكان حالهما ما قد عرفت.
فغضب الحاجب عند ذلك وقال: يا عليّ بن موسى، لقد عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، أن بعث الله بمطر مقدور في وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر؛ جعلته آيةً تستطيل بها، وصَوْلةً تصول بها، كأنّك جئت بمثل آية إبراهيم الخليل (عليه السلام) لمّا أخذ رؤوس الطير بيده، ودعا أعضاءها التي كان فرّقها على الجبال، فأتينه سعياً، ونزلن على الرؤوس، وخفقن وطرن بإذن الله تعالى، فإن كنت صادقاً فيما تزعم فأحيي هذين السبعين، وسلّطهما عليّ، فإنّ ذلك حينئذ يكون آيةً معجزة، فأمّا المطر المعتاد، فلست أنت أحقّ بأن يكون قد جاء بدعائك دون دعاء غيرك الذي دعا كما دعوت.
وكان الحاجب قد أشار إلى أسدين مصوّرين على مسند المأمون الذي كان يستند إليه، وكانا متقابلين على المسند
فغضب الرضا (عليه السلام) وصاح بالصورتين: دونكما الفاجر، فافْتَرِساه في المجلس، ولا تبقيا له عيناً ولا أثراً.
فوثبت الصورتان والقوم ينظرون متحيّرين، فلمّا فرغا منه أقبلا على الرضا (عليه السلام)، وقالا: يا وليّ الله في أرضه، ماذا تأمرنا أنفعل به ما فعلنا بهذا؟ يشيران إلى المأمون، فغشي على المأمون منهما،
فقال الرضا (عليه السلام): قفا. فوقفا، ثمّ قال: صبّوا عليه ماء ورد وطيّبوه. فَفُعِل ذلك به، وعاد الأسدان يقولان: أتأذن لنا أن نلحقه بصاحبه الذي افترسناه؟
قال: لا، فإنّ لله عزّ وجلّ فيه تدبيراً ممضيه.
فقالا: فماذا تأمرنا؟
فقال: عودا إلى مقرّكما كما كنتما، فعادا إلى المسند، فصارا صورتين كما كانتا.
فقال المأمون: الحمد لله الذي كفاني شرّهما وشرّ حميد بن مهران - يعني الرجل المُفتَرَس -.
فقال للرضا (عليه السلام): هذا الأمر لجدّكم (صلى الله عليه وآله) ثمّ لكم، ولو شئت لنزلت عنه
لك[1].