روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) [أنه قال] أن عبد الملك بن مروان كتب إلى عامله بالمدينة - وفي رواية: هشام بن عبد الملك - أن وجّه إليّ محمد بن علي، فخرج أبي وأخرجني معه، فمضينا حتى أتينا مَدْيَن شعيب(عليه السلام) (مدينة قوم شعيب، وهي تجاه تبوك على بحر القلزم، بينهما ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى بها موسى (عليه السلام) لغنم شعيب)، فإذا نحن بدَيْر عظيم [البنيان] وعلى بابه أقوام، عليهم ثياب صوف خشنة، فألبسني والدي ولبس ثيابا خشنة، وأخذ بيدي حتى جئنا وجلسنا عند القوم، فدخلنا مع القوم الدَّيْر.
فرأينا شيخا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فنظر إلينا، فقال لأبي: أنت منَّا، أم من هذه الأمة المرحومة؟
قال: لا، بل من هذه الأمة المرحومة. قال: من علمائها أم من جهّالها؟
قال أبي: من علمائها. قال: أسألك عن مسألة؟ قال [له]: سل [ما شئت].
قال: أخبرني عن أهل الجنة إذا دخلوها وأكلوا من نعيمها هل ينقص من ذلك شيء؟
قال: لا. قال الشيخ: ما نظيره؟
قال أبي: أليس التوراة والإنجيل والزبور والقرآن يؤخذ منها ولا ينقص منها [شيء]؟ قال: أنت من علمائها. ثم قال: أهل الجنة هل يحتاجون إلى البول والغائط؟
قال أبي: لا. قال [الشيخ]: وما نظير ذلك؟ قال أبي: أليس الجنين في بطن أمه يأكل ويشرب ولا يبول ولا يتغوط؟
قال: صدقت. قال: وسأل عن مسائل [كثيرة] وأجاب أبي [عنها].
ثم قال الشيخ: أخبرني عن توأمين ولدا في ساعة، وماتا في ساعة، عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة، من كانا؟ وكيف قصتهما [قضيتهما]؟
قال أبي: هما عزير وعزرة، أكرم الله تعالى عزيرا بالنبوة عشرين سنة، وأماته مائة سنة، ثم أحياه فعاش بعده (يعني بعد الموت) ثلاثين سنة، وماتا في ساعة [واحدة].
فخرَّ الشيخ مغشيا عليه، فقام أبي، وخرجنا من الدير، فخرج إلينا جماعة من الدير، وقالوا: يدعوك شيخنا. فقال أبي: ما لي إلى شيخكم حاجة، فإن كان له عندنا حاجة فليقصدنا. فرجعوا، ثم جاؤوا به، وأجُلس بين يدي أبي،
فقال [الشيخ]: ما اسمك؟ قال (عليه السلام): محمد. قال: أنت محمد النبي؟ قال: لا أنا ابن بنته.
قال: ما اسم أمك؟ قال: أمي فاطمة. قال: من كان أبوك؟ قال: اسمه علي.
قال: أنت ابن إليا بالعبرانية وعلي بالعربية؟ قال: نعم. قال: ابن شبر أم شبير؟
قال: إني ابن شبير. قال الشيخ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن جدك محمدا رسول الله.
ثم ارتحلنا حتى أتينا عبد الملك [ودخلنا عليه] فنزل من سريره واستقبل أبي وقال: عرضت لي مسألة لم يعرفها العلماء! فأخبرني إذ قَتلتْ هذه الأمة إمامها المفروض طاعته عليهم أي عِبرة يريهم الله في ذلك اليوم؟
قال أبي: إذا كان كذلك لا يرفعون حجرا إلا ويرون تحته دما عبيطا (خالص طري).
فقبّل عبد الملك رأس أبي، وقال: صدقت، إن في اليوم الذي قُتل فيه أبوك علي ابن أبي طالب (عليه السلام) كان على باب أبي مروان حجر عظيم، فأمر أن يرفعوه فرأينا تحته دما عبيطا يغلي.
وكان لي أيضا حوض كبير في بستاني وكان حافتاه حجارة سوداء، فأمرت أن ترفع ويوضع مكانها حجارة بيض، وكان في ذلك اليوم قتل الحسين (عليه السلام) فرأيت دما عبيطا يغلي تحتها، أفتقيم عندنا ولك من الكرامات ما تشاء، أم ترجع؟
قال أبي: بل أرجع إلى قبر جدي، فأذن بالانصراف، فبعث قبل خروجنا بريدا يأمر أهل كل منزل أن لا يطعمونا ولا يمكنونا من النزول في بلد حتى نموت جوعا، فكلما بلغنا منزلا طردونا، وفنى زادُنا حتى أتينا مدين شعيب، وقد أغلق بابه، فصعد أبي جبلا هناك مطلّا على البلد - أو مكانا مرتفعا عليه - فقرأ: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)[1] ثم رفع صوته وقال: وأنا - والله - بقية الله.
فأخبروا الشيخ بقدومنا وأحوالنا، فحملوه إلى أبي، وكان معهم من الطعام كثير، فأحسن ضيافتنا، فأمر الوالي بتقييد الشيخ فقُيّد ليحملوه إلى عبد الملك لأنه خالف أمره.
قال الصادق (عليه السلام): فاغتممت [لذلك] وبكيت، فقال والدي: لا بأس من عبد الملك بالشيخ، ولا يصل إليه، فإنه يتوفى في أول منزل ينزله، وارتحلنا حتى رجعنا إلى المدينة بجهد)[2].