رأس الإمام الحسين (عليه السلام)

عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينا أنا في الطواف بالموسم إذ رأيت رجلا يدعو وهو يقول: اللهم اغفر لي، وأنا أعلم أنك لا تفعل.

قال: فارتعتُ لذلك، فدنوت منه وقلت: يا هذا أنت في حرم الله وحرم رسوله، وهذه أيام حُرُم في شهر عظيم، فلِمَ تيأس من المغفرة؟

قال: يا هذا ذنبي عظيم. قلت: أعظم من جبل تهامة؟! قال: نعم.

قلت: يوازن الجبال الرواسي؟!

قال: نعم، فان شئت أخبرتك.

قلت: أخبرني. قال: أخرج بنا عن الحرم، فخرجنا منه.

فقال لي: أنا أحد من كان في العسكر المشؤوم، عسكر عمر بن سعد عليه اللعنة، حين قتل الحسين بن علي (عليه السلام)، وكنت أحد الأربعين الذين حملوا الرأس إلى يزيد من الكوفة، فلما حملناه على طريق الشام نزلنا على دير للنصارى، وكان الرأس معنا مركوزا على رمح، ومعه الاحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، فإذا بكف في حائط الدير تكتب:

أترجو أمة قتلت حسينا       شفاعة جده يوم الحساب

قال: فجزعنا من ذلك جزعا شديداً، وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذها، فغابت ثم عاد أصحابي إلى الطعام، فإذا الكف قد عادت تكتب مثل الأول:   

فلا والله ليس لهم شفيع   وهو يوم القيامة في العذاب

فقام أصحابنا إليها، فغابت (ثم عادوا إلى الطعام) فعادت تكتب:

وقد قتلوا الحسين بحكم جور            وخالف حكمهم حكم الكتاب

فامتنعت عن الطعام، وما هنأني أكله، ثم أشرف علينا راهب من الدير، فرأى نورا ساطعا من فوق الرأس، فأشرف فرأى عسكرا.

فقال الراهب للحراس: من أين جئتم؟ قالوا: من العراق، حاربنا الحسين.

فقال الراهب: ابن فاطمة، وابن بنت نبيكم، وابن ابن عم نبيكم؟! قالوا: نعم.

قال: تبّاً لكم، والله لو كان لعيسى بن مريم ابن لحملناه على أحداقنا، ولكن لي إليكم حاجة.

 قالوا: وما هي؟ قال: قولوا لرئيسكم: عندي عشرة آلاف دينار ورثتها من آبائي، ليأخذها مني ويعطيني الرأس، يكون عندي إلى وقت الرحيل، فإذا رحل رددته إليه.

فأخبروا (رئيسهم)...بذلك، فقال: خذوا منه الدنانير وأعطوه إلى وقت الرحيل، فجاؤوا إلى الراهب، فقالوا: هات المال حتى نعطيك الرأس، فأدلى إليهم جرابين في كل جراب خمسة آلاف دينار، فدعا...(رئيسهم) بالناقد والوزّان، فانتقدها ووزنها ودفعها إلى جارية له، وأمر أن يعطى الرأس.

فأخذ الراهب الرأس، فغسله ونظّفه، وحشاه بمسك وكافور (كان) عنده، ثم جعله في حريرة، ووضعه في حجره، ولم يزل ينوح ويبكي حتى نادوه وطلبوا منه الرأس، فقال: يا رأس والله ما أمْلِك إلا نفسي، فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدك محمد أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله، أسلمت على يديك وأنا مولاك.

ثم قال لهم: إني أحتاج أن أكلّم رئيسكم بكلمة، وأعطيه الرأس.

فدنا (رئيسهم) منه فقال: سألتك بالله، وبحق محمد صلى الله عليه وآله ألا تعود إلى ما كنت تفعله بهذا الرأس، ولا تُخرج هذا الرأس من هذا الصندوق. فقال له: أفعل.

فأعطاهم الرأس ونزل من الدير، فلحق ببعض الجبال يعبد الله.

ومضى(رئيسهم)، ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأول.

فلما دنا من دمشق، قال لأصحابه: أنزلوا. وطلب من الجارية (خازنه) الجرابين، فاحضرا بين يديه، فنظر إلى خاتمه، ثم أمر أن يفتحا، فإذا الدنانير قد تحولت خزفية، فنظروا في سكتها فإذا على جانب مكتوب: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)[1]. وعلى الوجه الآخر: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)[2]. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، خسرت الدنيا والآخرة.

ثم قال لغلمانه: اطرحوها في النهر، فطرحت، فدخل دمشق من الغد، وأدخل الرأس إلى يزيد، عليه اللعنة، (وبعد ما حصل في مجلسه من أحداث) ... أمر (يزيد) بالرأس فأُدخل القبة التي بإزاء المجلس الذي يشرب فيه، ووكَّلنا بالرأس، وكل ذلك كان في قلبي، فلم يحملني النوم في تلك القبة، فلما دخل الليل وكَّلنا أيضا بالرأس.

فقال الأعمش: قلت للرجل: تنحَّ عني، لا تحرقني بنارك، فولّيتُ ولا أدري ما كان من خبره[3].

 


[1] سورة إبراهيم: 42.

[2] سورة الشعراء: 227.

[3] الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي: ج2، ص578-582.